بينالي الإسكندرية.. صرخة احتجاج ضد العولمة

دشن يوبيله الفضي بمشاركة 34 فنانا من دول المتوسط

من أعمال الفنان الإسباني فاليريانو لوبيز («الشرق الأوسط»)
TT

صرخة احتجاج مدوية ضد العولمة، تنوعت مظاهرها الفنية والإنسانية، في أعمال 34 فنانا من دول حوض المتوسط، شكلت ألوانهم وخطوطهم ووسائطهم التعبيرية شواهد حية لتجليات هذه الصرخة على جدران بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط، الذي يحتفل بيوبيله الفضي، وافتتح فعالياته في 17 ديسمبر (كانون الأول) الحالي ويستمر نحو شهرين.

فمن سجن أبو غريب بالعراق إلى معتقل غوانتانامو بكوبا، إلى قوارب الموت المحملة بفلول المهاجرين على شواطئ إسبانيا واليونان وإيطاليا، تتواتر مشاهد المأساة الإنسانية في اللوحات، تاركة على حوافّ العين رعشة لا تُمحى، معجونة بالخوف والاضطهاد والتهديد والتعذيب. وكأن اللوحة حين تجسّد هذه المظاهر وتدينها، تربت على كتفيك وتهمس: «ثمة أماكن أخرى يكرر القمع فيها ألاعيبه وقوانينه وأقنعته، ويرتدي الموت أكذوبة الضرورة: ضرورة الحرب، ضرورة الخوف، ضرورة الردع، ضرورة الأمن... وغيرها من الأكاذيب التي أصبحت سمة عصرنا الشرس، ومدى ما وصل إليه الوضع البشري من ضعف وضعة وهوان».

تزخر معظم لوحات البينالي بلهب الظلم والعنف، ويمتد هذا اللهب حتى إلى الأحاسيس الخاصة المرتبطة بفضاء الأماكن والأشياء والذاكرة والهوية، في محاولة للبحث عن مخزون آخر موازٍ، نلمس من خلاله أن هذه الأشياء لا تزال تنبض برائحتنا، ونحن ما زلنا في مرآتها شواهد على أنفسنا، وعلى وجودنا في أعين الآخرين. يطل لهب العنف من زوايا الظلال السوداء الكثيفة الصلبة، في لوحات الإيطالي رومولو رويو، وفي شخوصه الدرامية المشدودة «المشنوق» و«الممزق»، موحية بأن ثمة عصورا أخرى من الظلام قادمة تحت معطف العولمة، ووهم إذابة الفواصل والفروق، وانتحال المصلحة الكونية، لتكريس منطق القوة والغطرسة، فيما ينزوي الضوء في بقع ولطشات حالكة، لإثارة الشك والقلق كسلاح للكشف والمواجهة والتحدي.

بجوار رويو يبحث رفيقه الإسباني فاليريانو لوبيز في عمل مركب عن شاعرية المشهد تحت وطأة واقع اجتماعي شديد القسوة، مجسدا النتائج المأساوية لمئات المواطنين الأفارقة، وحلم الهجرة غير الشرعية الزائف، وحطام السفن والموت على الشواطئ حول مضيق جبل طارق. يجمع لوبيز بين التصوير والرسم والنحت والفيديو، متخذا من لوحة «الطوافة» الشهيرة للفنان الفرنسي جريكوه خلفية جمالية لإضفاء مسحة من الشاعرية على بحر افتراضي، تمتزج فيه قناديل البحر في لوحة جريكوه، بمجموعة كبيرة من أقراص الأسطوانات المدمجة، التي تمثّل مصدر رزق للمهاجرين في واقع اجتماعي يلفظهم. وعبر عرض أدائي فوتوغرافي ينقل لوبيز أخبار هذا الواقع المأساوي من الصحافة والإعلام إلى داخل العمل، كما يشكل من الأسطوانات خريطة لإفريقيا، تتلألأ فوق صفحة البحر، كأنها غريق يبحث عن طوق نجاة. وفي سياق «المزج» الذي اعتمد عليه لوبيز نجح أيضا في خلق مشهدية موحية، على جسرها تتضافر لغة المسرح وإيقاع الصورة السينمائية، ليلفت الانتباه إلى انكسار الأمل والحلم، وبشاعة المشهد فوق سطح مضطرب، يوسع الهوة بين البشر في عالمنا الأول والثاني والثالث. لذا كان جديرا بأن تمنحه لجنة تحكيم البينالي جائزة شرفية خاصة باسمها. ومن شظايا المرايا المتناثرة يقدم الفنان الإيطالي مايكلانجو بيستوليتو، أحد ضيوف شرف البينالي، صورة أخري لفداحة المشهد الإنساني الراهن، في شكل مرثية لانعكاسات متتالية، تتهشم فيها الوجوه والملامح والرؤى، في لحظة تجاورها وتعددها فوق سطح المرايا التي تغلف جدران الغرفة الأربعة. ويكمن المغزى الفني والفكري اللافت في هذا العمل من دلالة التشظي المكثفة، فالمرايا لا تتكسر فحسب، بل تتكاثر، مخلفة في غبار شظاياها معنًى تتماهى فيه الذاكرة المفقودة، أو المحطمة، بالبحث عن بقعة ضوء في الطلاء الأسود الداكن الكامن وراء المرايا المهشمة، ما يوحي بوحشة الفراغ المعتم، وعزلة الكائن البشري، وتوقه إلى مرآة سليمة، تعيد إلى نفسه التوازن والتوافق.

وفي عمله المركب الذي يجمع بين الرسم والوسائط التعبيرية وأفلام الفيديو، الفائز بجائزة البينالي الكبرى «فنار الإسكندرية»، يستحضر المصري الشاب وائل شوقي من عباءة التاريخ مشهد الحملات الصليبية، ومن خلال منظورين متقابلين، الأول يكتظ برقائق سوداء من الجلد متجاورة في صفوف حادة على شكل صليب، تحت مسطح زجاجي، وفي المقابل يربض مجسم للمسجد الأقصى بقبته الشهيرة، بينما تتناثر على الحائط رسومات سردية سريعة مبهمة أقرب إلى الرقش، تسلمك إلى حيز صغير، حيث مشهد لفيلم فيديو يجسد سربا من الشباب الأفارقة يمتطون حميرا، تركض فوق شاطئ البحر. ويكرر المشهد نفسه بإيقاع ووتيرة واحدة طول مدة العرض. ورغم البعد الاستشرافي المباشر لفكرة الصراع في عالمنا الراهن، فإن العمل استطاع أن يلفت الأنظار إلى ما هو أبعد، وهو تلاشي فكرة الترفيه والترويح، في مجتمع أصبح مهجنا، متعدد الطبقات والهويات، محكوما بمنطق اللهاث، ويعيد بنفس القوانين والرتوش، استنساخ صراع كان في الماضي. ويحوله إلى مسلَّمة، لا تعترف بمنطق الجغرافيا والتاريخ والتطور. تخيم ظلال هذا الجو على الأعمال الثلاثة الأخرى الفائزة بجائزة البينالي، فاللبنانية دوريس بيطار يتشابك في عملها «الشرق في عيون الغرب» تعاليق من الفوتوغرافيا والتركيب، فيما تتحول خريطة للعالم موضوعة في صدارة المشهد إلى منمنمة، لانبثاقات وألاعيب الضوء، الذي ينداح بشكل عشوائي على السطح، لكن بؤرته سرعان ما تتركز بقوة وبشكل خاطف على الإرث المظلم في تضاريس الخريطة، في إشارة إلى التوجهات الاستعمارية الأوروبية تجاه العالم. وتصعّد الفنانة من دلالة هذا الرمز في مجموعة من التعاليق المتجاورة، لشخوص وعناصر وشواهد ارتبطت ظلالها بهذا الإرث الاستعماري، ولتؤكد على وظيفة حيوية للجمال باعتباره يملك القدرة على قراءة الوجه الهارب من التاريخ.

وتلعب المغربية صفاء الرواس في عملها «القمر بداخلي» الفائز بجائزة البينالي، على تيمة التكرار والتفاوت من خلال علاقة الضوء بالأحجام الكبيرة والصغيرة، وتتنوع أشكالها بين المباني والأسطح المجردة، والمُدْيات البيضاء المشدودة بخيوط مدلاّة من السقف، لتعكس حالة من الرتابة والتناسخ والتشابه، يفرزها نمط الحياة الحديثة، والآثار المؤلمة للزمن. أما الفلسطيني تيسير بركات، فلجأ في عمله «غبار - حوار - حديد» الفائز بجائزة البينالي، إلى فضاء سردي، حاول من خلاله استنطاق هذه العناصر الثلاثة، وإشاعة جو من الأنسنة الفنية في نسيجها المادي المراوغ، فبدت كأنها ثلاثة أقانيم للمعرفة، وفي الوقت نفسه ثلاثة معاول للهدم والبناء. وتكسر التونسية نادية كعبى لنكى في عملها «أضيئي النور» الفائز بجائزة شرفية من لجنة التحكيم مفهوم اللوحة، وتحولها إلى وسيط، في عمل مركب، يلملم بقايا الأحرف والشعارات الباهتة على جدران البيوت والشوارع، بما تحمله من مدلولات عقَدِيّة وخرافية وسياسية وغيرها. وبمنطق عفوي تتعامل الفنانة مع هذه المدلولات باعتبارها نفايات لذاكرة إنسانية تصطدم بالماضي والحاضر والمستقبل، ويبرز الجانب الفكري للعمل في رمز «الشمعة المضيئة» كوسيط تعبيري على إمكانية الطاقة المتجددة، وإمكانية إحراقها ونفادها في الوقت نفسه.

يتواشج مع كل هذه الرؤى الفنية لعواقب العولمة في أعمال البينالي رؤى أخرى تجسد المأزق الإنساني من زوايا بالغة الأهمية لعل من أبرزها، العلاقة المحطمة، بين مظهر الشيء، وما يخفيه. وانتقاد النظم التعليمية الحديثة، التي تحوّل العملية التربوية إلى قوالب جامدة مجردة خالية من الإشباع والتأمل. وكذلك البحث عن الهدوء في عالم يضج بالخوف والرعب. واللعب على الذاكرة المقلوبة، أو المثقوبة في التعامل مع الزمن والتاريخ. كل هذه الرؤى وغيرها يتبدى على نحو خاص في أعمال الليبية هادية قانة، والقبرصية يولا شاتيز جورج، والكرواتية سانيا إيفيكوفيك، والفرنسي جوليان مير، والفلسطينية سها شومان ضيف شرف البينالي. افتتح البينالي الذي يعد ثاني أقدم بينالي في العالم، فاروق حسني وزير الثقافة المصري، واللواء عادل لبيب محافظ الإسكندرية، والفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية، ورأس لجنة تحكيمه الياباني فوميو نانجو مدير متحف موري، وأقيمت على هامشه ندوة دولية بعنوان «ماذا بعد؟»، ناقشت تبعات العولمة، وتأثيراتها الثقافية على دول البحر المتوسط. ويستمر البينالي حتى 31 يناير (كانون الثاني) المقبل، وكانت دورته الأولى انطلقت في عام 1955 وافتتحها الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.