نصف سكان العالم ينشأون مزدوجي اللغة

400 لغة أحصيت في فرنسا وحدها وغالبيتها محكومة بالأفول

في إحدى مدارس لندن كان هناك ما يقارب 70 لغة محكية في أحد الصفوف لكن الإنجليزية كانت هي لغتهم المشتركة (أ.ب)
TT

نصف سكان العالم، على الأقل، ينشأون مزدوجي اللغة في زمننا الراهن، لكن عددا مهما من هؤلاء يفقدون مهارتهم اللغوية في إحدى اللغتين لصالح الأخرى، مع تقدم العمر. هذا ما تقوله بربارة عبد الإله بوير، المختصة بعلم النفس الاجتماعي، في دراسة حديثة لها، تضيف فيها شارحة أن «رياض الأطفال في فرنسا وحدها تستقبل مئات آلاف الأطفال الناطقين في أسرهم بلسان غير الفرنسية». وهو ما تشهده الدول الأوروبية الأخرى وكذلك القارة الأميركية، وبلدان كثيرة في العالم. وتتابع بوير «هنا نلاحظ واقعا أساسيا يمتاز به المجتمع الحديث لا يمكن تجاهله، أو تغييره، وهو أننا أمام ازدواجية لغوية تتزايد وتتصاعد»، لكنها لا تستقبل بالإيجابية التي تسمح لها بالتطور وإعطاء الثمر.

هذه الدراسة الشيقة التي تفتح الأعين على واقع لا يتم الالتفات إليه بالقدر الكافي، كانت قد صدرت في كتاب بالفرنسية العام الماضي، وتمت ترجمتها إلى العربية أخيرا في مؤلف يحمل عنوان «تحدي الأطفال المزدوجي اللغة» عن «دار الفارابي» وبدعم من «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم». وتذكر الدراسة أيضا أن تحقيقا قام به «المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية» في فرنسا أكد أنه أحصى ما يقرب من أربعمائة لغة، نطق بها مئات آلاف المقيمين على الأراضي الفرنسية ذات يوم، في طفولتهم. ويخبرنا الإحصاء بأن «26 في المائة من البالغين الحاليين في فرنسا تلقوا لسانا آخر غير الفرنسية وهم صغار، و9 في المائة منهم فقط يهبونه إلى أولادهم، وهكذا فإن كل اللغات الأجنبية في فرنسا، سيحل محلها اللسان الفرنسي جيلا بعد جيل»، ولن تبقى لتتعايش وتتفاعل مع الفرنسية على أرضها.

وتلفت الدراسة إلى أنها لا تعني بازدواجية اللغة، أولئك الذين يتقنون بشكل ممتاز لغتين أو أكثر قراءة وكتابة. فهذا قليل، وليس هو المقصود، وإنما الدراسة تهتم بشكل خاص بأولئك الذين تتاح لهم فرصة تعلم لغة ثانية بشكل تلقائي إما لأنهم ولدوا في أسر مهاجرة أو مختلطة، وربما أنهم دخلوا مدارس ورياض أطفال أتاحت لهم تعلم لغة إضافية، في سن مبكرة. وثمة أيضا من يعيشون في بلدان تتعدد فيها اللغات المحلية وتتداخل.

فإضافة إلى المهاجرين الذين يحملون لغاتهم إلى الدول التي يذهبون إليها فإن الكثير من مناطق العالم تتعايش فيها لغتان أو أكثر. ففي سويسرا ثلاث لغات تتعايش في دولة واحدة، مما يتيح للتلاميذ تعلم لغة ثانية بسهولة أكبر من غيرهم. وفي بعض مدارس فرنسا الرسمية أو الخاصة، تتعايش لغات محلية مع اللغة الفرنسية مثل منطقة الألزاس والباسك، أو لغة الدولة الحدودية المجاورة مع اللغة الفرنسية مثل الألمانية. وفي لوكسمبورغ تتعايش الألمانية مع الفرنسية. وفي دولة مثل الهند غالبا ما يجيد المواطنون لغتهم المحلية إلى جانب اللغة الرسمية، وهو حال الكثير من البلدان التي تتعدد فيها اللغات المناطقية، ويكثر التماس مع لغات الجوار الحدودية.

لكن دراسة بربارة عبد الإله بوير، تركز بشكل أساسي على ما يحدث في أوروبا وتحديدا فرنسا، وتقول «إن تعايش لغات كثيرة في حيز جغرافي واحد هو القاعدة في معظم مناطق العالم. وفي فرنسا، اللغة الفرنسية هي واحدة من رموز الوحدة الوطنية. فمنذ الثورة - لا بل منذ التعليم الإلزامي الذي أقره جول فيري - أصبحت اللغة الفرنسية وثاق الجمهورية، الذي يضمن الوحدة الوطنية، وصدر عدد من القوانين والمراسيم التي نظمت استعمال اللغة الفرنسية، حتى وصلنا إلى قانون وزير الثقافة توبون عام 1994 الذي نظم استخدام التعابير الإنجليزية في وسائل الإعلام والدعاية». وتشرح بوير أن «واجب المدرسة في فرنسا هو دعم استعمال اللغة الفرنسية الجيدة، وبالتالي تعتبر كل لغة أخرى منافسة لها»، وهو ما يسهل مهمة قمع غالبية ساحقة من اللغات الأخرى التي توجد على ألسن الأطفال في السنين الأولى من أعمارهم.

وتهاجم صاحبة الدراسة ما تسميه «عسر تقبل التنوع اللغوي والثقافي» في فرنسا الذي يجعل الوالدين الجزائريين أو البولونيين أو الألمانيين أو الصربيين، عاجزين جميعهم عن نقل تراثهم الثقافي إلى أولادهم، عبر لغتهم الأم.

وكما هو معروف فإن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل بالنسبة للمتكلمين بها، وإنما تنطوي على منظومة من القيم والأفكار والصور، وبمعنى آخر، فهي التي تحمل التراث. وبالتالي فإن هذه الدراسة التي بات يمكن للقارئ أن يستمتع بها بالعربية تحذر من أن الذين يحرمون من لغتهم الأم بإضعافها أو تهميشها لصالح لغة أخرى بديلة تحل محلها كليا، يعانون من انقطاع مؤلم مع امتدادهم وهويتهم الأصلية، لا بل وعائلاتهم. وتشجع هذه الدراسة على تعلم اللغات، لأن ما يقلق ليس أن يكون الشخص مزدوج اللغة، وإنما أن يكون الإنسان أحادي اللغة، وبالتالي فإن هذا يجعله عرضة لتشكيل أفكار نمطية ومعتقدات محددة، تتحول إلى ما يشبه السجن، مما يتسبب لدى الشخص في الإحساس بالخوف وعدم الأمان.

وتنصح الدراسة الأهل الذين يشعرون بأن ابنهم يفقد لغته الأم في محيط لا يتكلمها فيه، بأن يكثروا من الأصدقاء الذين يتكلمون لغة مشتركة معهم. فليس المهم إجادة اللغة قراءة وكتابة، وإنما التمكن من استعمالها في الحياة اليومية. ومما تطمئن إليه بوير أن الأولاد الذين يتعلمون لغة البيت قد ينسونها حين يذهبون إلى المدرسة التي لا تتعامل معهم باللغة نفسها، وربما نسوها كليا في فترة ما، لكن العائلات التي عاشت تجارب مماثلة، تؤكد أن هؤلاء الأولاد بعضهم يعود ليتعلم لغته الأم، ويجد متعة في ذلك، لا بل وسهولة لا تتوافر لمن لم يعيشوا التجربة ذاتها وهم صغار.

ومما يجب الانتباه إليه أن الأفكار التي كانت تسود المدارس الغربية، وتقول بأن الأطفال مزدوجي اللغة يتأخرون في التحصيل الدراسي بسبب غلبة لغتهم الأم على لغة المدرسة، هو كلام ثبت خطؤه، وتبين أن هؤلاء الأطفال، كانوا يواجهون صعوبات لها أسباب أخرى. وحين تبين أن تعلم اللغات مفيد في الصغر، وجدنا أن ثمة استغلالا للأطفال من قبل المربين وأحيانا الأهل، لحشو رأس الطفل بعدد كبير من الكلمات والتراكيب اللغوية. وبالتجربة تبين أن الأطفال يحتاجون لسنوات من التعلم كي تظهر عليهم علامات هضم المعلومات اللغوية، وبالتالي فهذه مهمة تحتاج لنفس طويل، وعدم استعجال لكن نتائجها ستظهر إيجابية للغاية.

صحيح أن نصف سكان الأرض يتحدثون لغتين أو أكثر في فترة ما من أعمارهم، لكن هذه الظاهرة، تتعرض لمحاربة شديدة، رغم أنها يمكن أن تشكل كنزا إنسانيا وثقافيا لأي بلد يمكن أن توجد فيه. والمحاربة لا تأتي فقط من التعصب الرسمي للغة البلد الأساسية، وإنما أيضا بسبب الأفكار الجاهزة عن اللغة وشعبها التي يتكلمها. فأسهل على عائلة إنجليزية أن تعلم أولادها لغتهم الأم بين الألمان أو الفرنسيين من أن تتمكن عائلة عربية من نقل لغتها إلى أولادها وهي تعيش في أوروبا. والسبب دائما بحسب الدراسة هو الفكرة السائدة عن اللغة في المجتمع الذي تحاول أن تتعايش معه. فالفكرة السائدة عن الألمانية أنها صلبة وتخلو من السحر والجاذبية، أما الصينية، فهي صعبة بحسب الأفكار الشائعة عنها ومن شبه المستحيل تعلمها، فيما الإنجليز باردون ولغتهم سهلة، فكيف يمكن لأصحابها ألا يتكلموها، حتى ولو عاشوا في أي بلد؟ وبالتالي فإن متكلم اللغة، حين يوجد في أرض غير أرضه، سيجد أولاده وهم يتعلمون لغتهم الأم وكأنما هم يمشون في حقل ألغام من الأفكار الجاهزة، التي تؤثر بشكل سلبي غالبا على الإبقاء على اللغة الأم والاستفادة منها وإفادة البلد المقيم من غناها وكنوزها. وهو أمر بحسب الدراسة يحتاج إلى إعادة نظر، ورؤيا علمية ثاقبة، لتغيير السلوك وتصحيح المفاهيم.