المفكر أنيس صايغ الذي قهر الاغتيالات يخلد إلى نومه الأخير

داهمه الموت في عمان ويدفن في بيروت

أنيس صايغ
TT

عن عمر يناهز 78 عاما، وأثناء وجوده في الأردن لقضاء أعياد الميلاد مع أقاربه، فاجأ الموت المؤرخ والمفكر أنيس صايغ يوم السبت الماضي، فغادرنا على عجل، تاركا وراءه مسيرة من النضال، وعشرات الكتب، وإنجازات سيبقى التاريخ يذكره بفضلها.

أنيس صايغ من مواليد طبرية في فلسطين عام 1931، لأب قسيس سوري هاجر إلى فلسطين وأم لبنانية من منطقة البترون. عاشت العائلة في فلسطين حتى هجّرها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، وأكمل صايغ دراسته الثانوية في صيدا، ثم في بيروت، وقد تزوج من الباحثة الأردنية هيلدا. ورغم حصوله على الجنسية اللبنانية فإنه عرف بفلسطينيته، وقضى حياته منافحا عن القومية العربية وعن فلسطين فكرا وانتماء ونضالا عروبيا متواصلا. نال الشهادة الجامعية في العلوم السياسية والتاريخ سنة 1953 من الجامعة الأميركية في بيروت. ثم عمل في الصحافة اللبنانية، قبل أن يتوجه إلى جامعة كمبردج البريطانية ويحصل منها على الدكتوراه في العلوم السياسية والتاريخ العربي، ثم عين في جامعة كامبردج أستاذا في دائرة الأبحاث الشرقية فمديرا لإدارة القاموس الانجليزي - العربي الذي مولته مؤسسة فرانكلين، لكنه قدم استقالته بعد أن اختلف مع المؤسسة الممولة. وهو من المؤسسين للموسوعة الفلسطينية، وعين مديرا عاما لمركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. وهو عمليا مؤسس هذا المركز الذي استهدفته إسرائيل واحتلته حين دخولها بيروت. لكنه لم يكمل مساره في المركز بسبب خلاف بينه وبين ياسر عرفات.

أسس مجلة «شؤون فلسطينية» في السبعينات من القرن الماضي، ومجلة «شؤون عربية» و«المستقبل العربي» و«قضايا عربية». بدأ بإصدار مؤلفاته قبل سفره لإكمال دراسته في أميركا حيث كان باكورتها «لبنان الطائفي» عام 1955، تلاه «الأسطول الحربي الأموي في البحر الأبيض المتوسط» 1956، ثم «جدار العار» 1956. وبعد ذلك صدر له «سورية في الأدب المصري القديم» 1957. وقد كتب عن «المفهوم القومي» و«الهاشميون والثورة العربية». ومنذ عام 1966 بدأت كتابته تتركز بشكل خاص على فلسطين والحركة الصهيونية مثل «الجهل بالقضية الفلسطينية» و«الساسة الإسرائيليون». وكان آخر كتبه قد صدر عام 2006 وحمل عنوان «أنيس صايغ عن أنيس صايغ» وفيه كتب سيرة ترحال أسرته، ومذكراته الشخصية التي تختصر في آلامها سيرة أمته، أكثر مما هي ذكر أحداث ذاتية خالصة. ولم يكن أنيس صايغ ليرتاح أو يستكين، فقد داهمته الأزمة القلبية التي أودت به، وهو يجمع مقالات الأصدقاء وأبحاثهم حول صديق النضال شفيق الحوت، ليصدرها في كتاب حول الرجل الذي سبقه في الرحيل، لكن المنية لم تمهله ليتم هذا الكتاب، الذي ربما نهض به أصدقاؤه من بعده.

لم تكن سهلة حياة أنيس صايغ، لقد فقد والدته ثم إخوته الواحد تلو الآخر، ومن ثم والده، وكاد هو الآخر يرحل باكرا إثر عدة محاولات لاغتياله، لولا أن الحظ انتشله خاصة، عندما حاولت إسرائيل اغتياله بتاريخ عام 1972 بطرد ناسف.

صحيح أن أنيس صايغ لم يمت بسبب ذاك الطرد اللعين، لكنه فقد على إثر الحادثة إحدى عينيه، وتعثرت الرؤية عنده، كما فقد بعض أصابعه. ورغم الحادث الفظيع الذي تعرض له، فإن أنيس صايغ بقي يعاند إعاقته، ويكمل مسيرته كتابة وقراءة وصبرا، بمساعدة رفيقة دربه. وكان لا ينقطع عن حضور المناسبات الثقافية كلما استطاع ذلك، محافظا على دماثة في الخلق ورقة في التعاطي.

يعتبر أنيس صايغ أحد المؤرخين الأساسيين للقضية الفلسطينية، ليس فقط بسبب مؤلفاته الكثيرة في هذا المجال، بل بفضل رغبته في وضع موسوعة، ومركز أبحاث ومكتبة متخصصة، أي بمعنى آخر، إنشاء مؤسسات تعنى بالقضية الفلسطينية وتطوراتها.

لقد عمل أنيس صايغ بوتيرة كثيفة، وكما يليق بأكاديمي ملتزم أن يفعل، عاش غالبية عمره في لبنان، لكن المنية وافته في عمّان، وينقل جثمانه إلى بيروت ليوارى الثرى في البلد الذي شهد صولاته وجولاته، وولادة كتبه، وفيه دفنت أسرته التي سبقته إلى الأبدية.