2009 نهاية عقد : 2009: الإسرائيليون ينتخبون اليمين للحكم لتنفيذ سياسة اليسار السلامية

القبول بمبدأ الدولتين يعني انهيار مزاعم اليمين بفلسطين التاريخية

نتنياهو يحضر جنازة الحاخام فارام رافيتز في القدس المحتلة في يناير الماضي (رويترز)
TT

أحزاب اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل سجلت لنفسها انتصارا كبيرا في الانتخابات العامة التي جرت في مارس (آذار) 2009، إذ فازت بأكثرية ساحقة في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي). وعلى الرغم من أن حزب «كديما»، الذي يصنف في إسرائيل على أنه حزب وسط ليبرالي، فاز بغالبية الأصوات وحصل على مقعد واحد زيادة على الليكود (29 مقابل 28 نائبا)، فإنه لم يستطع تشكيل حكومة. ومنحت الأكثرية اليمينية من الأحزاب ثقتها إلى حزب الليكود. ومنذ ذلك الوقت يعزز اليمين سلطته، على عكس ما جرى لحكومات اليمين السابقة.

وأجريت عدة استطلاعات للرأي خلال الشهر الماضي، أشارت جميعها إلى أن اليمين تحت قيادة بنيامين نتنياهو، عزز من قوته أكثر وأكثر خلال السنة. وإلى أنه لو جرت الانتخابات مجددا، فسيعطي الجمهور لليمين ثقته مرة أخرى وبنسبة أعلى. وأعطى 65% من الجمهور علامة نجاح لرئيس الحكومة نتنياهو. اليمين في إسرائيل يعتبر ذلك دليلا على انعطاف جوهري في تفكير الإسرائيليين باتجاه اليمين وأنه دليل على إفلاس اليسار. فأحزاب اليسار (حزب العمل اليوم الشريك في الحكم وحزب ميريتس اليساري المعارض)، كانت قد قادت الحركة الصهيونية عبر التاريخ وبنت وأسست إسرائيل واستمرت في قيادتها منفردة حتى سنة 1977. ثم عادت لتنافس على القيادة عدة مرات وتمكنت من تقاسم السلطة مع الليكود اليميني في سنة 1984 و1986 ثم تولت السلطة سنة 1992 بدعم من الأحزاب العربية بقيادة إسحق رابين. وبعد اغتيال رابين سنة 1995، عاد اليمين إلى الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو (1996 - 1999)، وأسقط من جديد ليفوز حزب العمل بقيادة إيهود باراك. ثم عاد وخسر الحكم لصالح الليكود بقيادة أرييل شارون.

واعتبرت فترة شارون، مرحلة انكسار لليمين سياسيا وتنظيميا، فهو الذي أسس حزب «كديما» بقيادته ومجموعة كبيرة من المنشقين عن الليكود وشيمعون بيريس الذي قاد مجموعة من المنشقين عن حزب العمل.

وبدأ عهد جديد في إسرائيل، حيث سيطر على الحكم ولأول مرة حزب الوسط الليبرالي. لكن هذا الحزب تلقى ضربة من أولى غزواته، بإصابة شارون بشلل دماغي وموت سريري منذ يناير (كانون الثاني) 2006. وتولى الحكم من بعده إيهود أولمرت، وهو أقل هيبة وكاريزما من شارون. وتعرض لعملية قتل شخصية. وتولت مكانه تسيبي لفني. ومع أنها شخصية ضعيفة، فإنها تمكنت من الحفاظ على قوة الحزب، لكنها لم تستطع الفوز بالسلطة. فقد اختار الإسرائيليون أحزاب اليمين لتشكل الحكومة.

* انتصار أم أزمة ؟!

* في اليسار الإسرائيلي، بقدر ما يمكن أن نسميه يسارا، يعتبرون هذه النتيجة تعبيرا عن أزمة خانقة لمعسكرهم أكثر مما هي نجاح لليمين. فيقولون إن الجمهور ينحرف إلى اليمين لأن اليسار لم يقدم للجمهور شخصيات قيادية مقنعة تستطيع أن تكون بديلة عن بنيامين نتنياهو، الذي يبث للجمهور قوة وثقة. ويحاولون في اليسار البحث عن أخطائهم الأخرى، التي أدت إلى نفور الجمهور منهم. فيقول يوسي بيلين، الذي شغل منصب وزير عن حزب العمل لكنه انشق عن حزبه وانضم إلى حزب ميريتس اليساري وأصبح قائدا له، إن «اليسار الإسرائيلي فقد هويته واختار رجلا من قوى اليمين، هو إيهود باراك، زعيما له. والرسالة التي بثها الجمهور لنا في الانتخابات الأخيرة هي: «نحن نبحث عن الأصل. باراك رجل يمين ولكن انتخابه من اليسار يبدو مصطنعا. فإذا كنتم في اليسار تختارون رجل يمين لقيادتكم، فلماذا لا نختار نحن رجل يمين أصليا لقيادتنا. لقد سلمنا رقبتنا الأيديولوجية للذبح». ولكن هناك في اليسار، وكذلك في مركز الخريطة الحزبية في إسرائيل، من يحمل الفلسطينيين مسؤولية هذا الانعطاف نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي. فيقول المحلل اليساري المعدود على معسكر اليسار، أمنون أبراموفتش: «العرب أسهموا كثيرا في إضعاف قوى اليسار وانتصار اليمين في إسرائيل، وهذه حقيقية يجب أن نعترف بها نحن اليساريين. فالفلسطينيون الذين نتعاطف معهم كثيرا ونريد لهم الحرية من الاحتلال والاستيطان وبناء دولة مستقلة مزدهرة، أخفقوا كل مرة في فهم تركيبة الخريطة الحزبية الإسرائيلية وأسهموا بشكل مباشر وفعال في تقوية أعدائهم وإضعاف أصدقائهم في المجتمع الإسرائيلي، على عكس الفيتناميين الذين تمكنوا من كسب عطف الرأي العام في الولايات المتحدة برمته. فعندما انسحبنا من لبنان، احتل حزب الله الجنوب اللبناني وجعل منه جبهة حرب ضد إسرائيل. وعندما سافر باراك إلى كامب ديفيد وعرض عروضه السخية لاتفاقية السلام، رفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات التعهد بأن يكون اتفاق السلام نهاية للصراع وللمطالب الفلسطينية. وعندما انسحبنا من قطاع غزة، وجدنا الشعب الفلسطيني ينتخب حماس لقيادته. ثم وجدنا حماس تطلق علينا الصواريخ وتنتج أو تبتاع أسلحة وصواريخ جديدة قد يصل مداها إلى تل أبيب. لم يترك الفلسطينيون لأصدقائهم في إسرائيل لحظة فراغ واحدة. فسروا تنازلاتنا لهم عن الأرض بشكل خاطئ. حسبوا أننا أصبحنا ضعفاء، فحاولوا استضعافنا أكثر. لذلك راح الجمهور الإسرائيلي يفتش عن قيادات قوية صارمة ترفض تقديم المزيد من التنازلات للفلسطينيين أو السوريين».

ويضيف أبراموفتش: «الجمهور في إسرائيل يريد السلام. وهو يقول ذلك علنا. في جميع استطلاعات الرأي التي جرت في إسرائيل خلال السنين العشر الأخيرة ظهر أن أكثر من ثلثي الإسرائيليين بالمعدل يؤيدون قيام دولة فلسطينية على قاعدة حدود 1967 في إطار عملية السلام. ولكنهم، بسبب سياسة التخويف التي يتبعها الفلسطينيون ضدنا، يصوت الجمهور الإسرائيلي إلى أحزاب اليمين. فهو يريد أن يحكم اليمين لكي يقوده إلى عملية سلام.

وكانت المسيرة التاريخية الإسرائيلية قد دلت فعلا على أن حكومات اليمين تصنع السلام وتدير مفاوضات السلام، بينما حكومات اليسار والوسط في إسرائيل هي التي تدير الحروب.

ومن يتابع النقاش داخل حزب الليكود وغيره من أحزاب اليمين، يجد أن هذا المعسكر المنتصر يعاني من إحباط دائم إزاء وضعه في الحكم. بل إن اليمين الأيديولوجي ليس سعيدا بهذا الانتصار. ويرى أن كارثة معسكر اليمين قد بدأت بشكل فعلي، عندما وصل اليمين إلى الحكم، أول مرة، في سنة 1977. وأن هذه الكارثة مستمرة وتنذر بانهيار تام لمعسكر اليمين وأيديولوجيته. وكما يقول أحد كبار قادة اليمين، وزير الدفاع الأسبق، موشيه أرينز، الذي يعتبر مكتشف نتنياهو وما زال مقربا منه، فإن الجلوس على سدة الحكم جعلت اليمين يفقد البوصلة ويدمر الأسس التي قام عليها: «فنحن تربينا على مبادئ أرض إسرائيل الكاملة (هكذا تسمى فلسطين التاريخية في اللغة السياسية في إسرائيل). لكن حزب الليكود لم ينتهز أية فرصة سانحة لتطبيق هذا المبدأ. فقد فاز اليمين بالحكم سنة 1977. ولكنه لم يضم إلى تخوم إسرائيل الضفة الغربية أو قطاع غزة. فلو فعل، لكانت البلاد كلها تبدو بشكل آخر. فاليوم، وبعد 42 سنة ونيف من «تحرير» يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، لا يسكن في المناطق المحتلة سوى نصف مليون يهودي من مجموع 5.8 مليون نسمة. فهذا هو الفشل بعينه».

ويضيف النائب روبي رفلين، رئيس الكنيست عن حزب الليكود، إن اليمين بدأ تراجعه عندما قرر أول رئيس حكومة له، مناحم بيغن، أن يواصل الالتزام بمبادئ الحرية والديمقراطية. فقد كان انتصارنا في حينه بمثابة ضربة مخيفة لأوساط قريبة وبعيدة في إسرائيل والمنطقة والعالم. وأراد بيغن أن يهدئ من روع الجموع. فقبل بأصول اللعبة. وتعهد بتطبيق كل الالتزامات والاتفاقيات التي وقعتها الحكومة السابقة. ووافق على قرار الحكومات السابقة بقبول قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338. وجاء (الرئيس المصري، أنور) السادات ليكبل بيغن في هذه الزنزانة الضيقة ويضعه في امتحان ماكينة الصدق. فقد فاجأ العالم وبهر إسرائيل بزيارته التاريخية، واضطر بيغن إلى توقيع اتفاقية سلام تاريخية. خطورة هذه الاتفاقية أنها أصبحت سابقة في اتفاقيات السلام، حيث بنيت على مبدأ إعادة الأرض المحتلة منذ عام 1967، حتى آخر شبر. وهذا يعني أن كل حكومة يمينية تدير مفاوضات على هذا الأساس، تتنازل عن مبادئ اليمين الأساسية. عمليا، فإن اليمين الإسرائيلي يحكم وفقا لسياسة اليسار والوسط. فقد انهار شعاره التاريخي: «أرض إسرائيل الكاملة». وأحد قادته (شارون) هدم بيديه مشروع الاستيطان، عندما انسحب من طرف واحد من قطاع غزة ومن أربع مستوطنات أخرى شمال الضفة الغربية. وقال يومها إنه لا بد من إقامة دولة فلسطينية. وأولمرت، الذي انحدر هو الآخر من عائلة يمينية متطرفة، عرض على الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، إقامة دولة فلسطينية على حدود تساوي من ناحية المساحة نفس مساحة الضفة الغربية (على أساس تبادل الأراضي)، وقد اختلفا فقط حول نسبة الأراضي التي ينبغي تبادلها. ورئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، ورغم ما عرف عنه من مراوغات ومحاولات تملص وخداع، لا يستطيع أن يتجاهل تماما ما عرضه سابقوه على الفلسطينيين. وهذا، في نظر رفاقه في اليمين، يكون الضربة القاضية لمعسكر اليمين في إسرائيل، رغم أنه في الحكم.