مخطوطات إسلامية قد تعيد إحياء تومبوكتو بالصحراء الكبرى

أصحابها يرفضون بيعها.. وحكومة جنوب أفريقيا أكثر جهة مهتمة بها

TT

من داخل صندوق معدني منبعج، سحب عبد الرحيم طاهر كتابا ذا غلاف جلدي مكتوب بخط اليد يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر، ويحوي بعض الأحاديث النبوية الشريفة. تحدث طاهر عن الكتاب الأصفر القديم، قائلا: «في كل مرة ألمسه، يتهاوى قليلا قليلا».

ومع ذلك وجد طاهر في هذا المجلد أملا جديا لنفسه وأسرته وهذه المدينة الأسطورية المتداعية الآن. ولا يقتصر هذا الاعتقاد على طاهر، حيث اجتاحت حالة أشبه بحمى الكتب القديمة مدينة تومبوكتو في السنوات الأخيرة، ويأمل سكانها في أن جذب أنظار العالم إلى مدينتهم المعروفة باسم نهاية الأرض، من خلال إقامة مكتبات يتمكن الزوار فيها من الاطلاع على مجموعات من المخطوطات يعود تاريخها إلى قرون كثيرة مضت.

في مدينة تقع بغرب أفريقيا حيث يناضل البدو والتجار لكسب العيش، لا شك أن اجتذاب اهتمام العالم من جديد لمئات الآلاف من المخطوطات ذات الملكية الخاصة، والتي تمكنت من النجاة من حوادث حريق ومن التلف بسبب الأمطار والرمال والنمل الأبيض، يعد بمثابة فرصة اقتصادية كبرى. وعلاوة على ذلك، يؤكد باحثون ومقيمون أن استعادة الاهتمام بهذه الكتب وترميمها، والتي كتبت غالبيتها باللغة العربية على أوراق هشة أو جلود الماشية، يحمل أهمية حيوية للتعريف بماضي تومبوكتو، وبصورة أوسع، المنطقة الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، والتي كانت في وقت ما مركزا للعلوم.

وأوضح بويا حيدرة، 52 عاما، أمين مكتبة لدى «معهد أحمد بابا»، وهي مكتبة عامة يعتزم القائمون عليها نقلها إلى مبنى تحت رعاية حكومة جنوب أفريقيا، أن «الكثير يظنون أن أصحاب البشرة السمراء ليس لديهم تاريخ، وإن وجد فجميعه شفهي. لذا، فمن المهم أن يعي العالم أن الأفارقة ذوي البشرة السمراء لديهم تاريخ مكتوب».

الملاحظ أن الجهود الجارية على هذا الصعيد اتسمت بوتيرة بطيئة. وجدير بالذكر أن التحذيرات بشأن المتمردين المتشددين ردعت السائحين عن السفر إلى هذه المدينة. ولا تزال أغلب الكتب القديمة تخضع لملكية خاصة، وقد تبقى على هذه الحال، نظرا لرفض الكثير من ملاكها التنازل عنها بناء على وصايا الأجداد. إلا أنهم يناضلون، في الوقت ذاته، لجمع أموال بهدف ترميمها أو عرضها للعالم.

تملك عائلة طاهر، على سبيل المثال، قرابة 2700 مخطوط جرى توارثها من عهد جده الأكبر، الذي كان يعمل خطاطا. توجد حاليا هذه المخطوطات مكدسة بعضها فوق بعض داخل صناديق، إلى جانب أوعية معدنية، داخل منزل طاهر الذي تغطي أرضيته الرمال، وكذلك داخل خزانة كتب يشير إليها باعتبارها مكتبته، وهي عبارة عن غرفتين خاليتين تقريبا يقضي بهما الوقت في وضع فهرس للمخطوطات التي بحوزته.

وتضم مكتبة طاهر أيضا جهاز كومبيوتر يعلوه الغبار. وضع طاهر قائمة باحتياجات المكتبة، تضمنت دورة مياه وقاعة عرض. وأشار طاهر إلى أن أحد المغاربة ممن شاهدوه وشاهدوا المجموعة التي بحوزته في برنامج تلفزيوني تبرع بنحو 8000 دولار. لكن في ما عدا ذلك كانت المساعدات شحيحة.

واضح أن مكتبات أخرى تمتعت بحظ أوفر مع تقديم جهات مانحة، مثل ليبيا ومؤسستي «فورد» و«أندرو دبليو ميلون»، مئات الدولارات لإنقاذ الكتب. داخل «مكتبة ماما حيدرة»، التي تلقت مساعدات مالية، تتولى النساء مهمة تنظيف المخطوطات داخل معمل للترميم، بينما يبني ثلاثة رجال صناديق تخزين. وفي هذا الصدد قال المدير محمد إم مور: «يجري التعامل مع المخطوط كما لو أنه طفل رضيع». ونوه مور بأن المجلدات الـ22000 الموجودة بالمكتبة كانت في حوزة العائلة منذ القرن السادس عشر. ومع ذلك يحرص مور على التنقل بين قرية وأخرى بحثا عن إضافات جديدة لمجموعة النصوص القديمة التي بحوزته وتتناول موضوعات في الطب والتاريخ والفلك والثقافة والدين. وأضاف مور، مشيرا إلى عدد من لخطابات العتيقة: «إن أكثر ما يروق لي المراسلات، فهي تتناول رحلات السير من باماكو أو مكة. وتتضمن عددا من الأمور الغامضة».

ومنذ ستة قرون ماضية، كان الناس يسافرون سيرا على الأقدام أيضا، بل ويتدفقون على تومبوكتو. ونظرا لموقعها في الصحراء بين شمال وجنوب الصحراء الكبرى وعلى أطراف منطقة دلتا نهر النيجر، شكلت المدينة محورا تجاريا حيويا. وكانت تضم جامعة يصل عدد طلابها إلى 25000 وتوفر منحا تعليمية. كانت الأسواق تعج بالكتب التي يجري نقلها على ظهور الجمال. وباع الخطاطون النسخ التي يصنعونها مقابل غِرامات من الذهب.

بدأ انحسار تومبوكتو أواخر القرن السادس عشر، عندما عمد مغيرون مغاربة تعقب العلماء الذين اعتبروهم مصدر تهديد لهم. وتحولت التجارة إلى مواني غرب أفريقيا، وتعرضت الكتب التي تعد بمثابة شهادة على هذه العصور السابقة المجيدة للنبذ والإهمال.

وعن ذلك قال ألكسيو موتسي، المعني بحفظ المخطوطات القديمة لدى «هيئة الأرشيف الوطني في جنوب أفريقيا»: «منذ عشرين عاما ماضية لم يكن الناس يعلمون حتى بوجود معظم هذه المخطوطات. كان عثورهم عليها محض صدفة».

ورغم أن هذه الكتب القديمة عاودت الظهور على السطح في سبعينات القرن الماضي، فإن جهود الحفاظ عليها لم تكتسب زخما قويا سوى في السنوات الأخيرة. واضطلعت جنوب أفريقيا بدور محوري على هذا الصعيد، حيث اعتبر رئيسها السابق المثقف، ثابو مبيكي، المخطوطات وسيلة لتناول «الحاجة الملحة لإعادة النظر إلى أفريقيا، وهي حاجة ملحة لأن تتولى أفريقيا إعادة تعريف ذاتها»، حسبما أوضح في خطاب ألقاه عام 2008.

ومن المقرر أن ينتقل عدد من أمناء الأرشيف وأمناء المكتبات من جنوب أفريقيا للإقامة في مبنى «معهد أحمد بابا». وتقرر كذلك نقل المجموعة التي يملكها المعهد وتتألف من 30000 مجلد، علاوة على نسخة من القرآن مكتوبة على جلد غزال يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر، إلى غرف بها تحكم في ظروف الطقس. ويتضمن المبنى مساحات تكفي 100000 كتاب. من ناحيته قال حيدرة إنه حاول إقناع عائلات بضمان حماية المخطوطات التي في حوزته ببيعها إلى المكتبة، لكن صعوبات جمة جابهته. وأوضح أن «هذا إرث عائلي، الأمر الذي يحول دون تخلي الناس عنه. نحن نعمل من جانبنا على زيادة مستوى الوعي لديهم».

من ناحية أخرى، لا ينوي طاهر بيع المجموعة التي يملكها. وأشار إلى أن أميركيا زاره مؤخرا وعرض عليه شراء بعض الكتب مقابل 18000 دولار، لكن طاهر رفض. وأكد عزمه جمع المال اللازم لبناء مكتبة بنفسه. حاليا، يقضي طاهر وقته في تدريس اللغة العربية ووضع فهرس للمخطوطات والنصوص، التي تتضمن بعض هوامشها ملحوظات كتبها قراء في عصور سابقة. وأوضح طاهر وهو يشير إلى عبارة كتبت فوق أحد الأحاديث النبوية: «تقول هذه الملحوظة: (اقرأها 177 مرة، وسيستجيب الله دعوتك)».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»