سوق الحرير الدمشقية زبائنها نساء فقط

تأسست قبل 400 سنة وأطلق عليها «تفضلي يا ست»

TT

في منطقة من أكثر مناطق دمشق القديمة ازدحاما بالناس والزوار والسياح، وفي الموقع الذي يفصل ما بين أهم وأكبر سوقين دمشقيتين قديمتين، وهما الحميدية ومدحت باشا، تقع سوق الحرير، أو كما درج الدمشقيون على تسميتها منذ انطلاقتها قبل 400 عام: سوق «تفضلي يا ست».

في هذه السوق نادرا ما تجد غير النساء وبمختلف الأعمار يتسوقن من محلاتها التي تخصصت في كل ما له علاقة بحاجات النساء، خصوصا ما يتعلق بلباسهن ومكياجهن ومفردات زينتهن. ولأن التجار الشوام «شاطرين»، كما يطلق عليهم البعض، فإنهم وفي كثير من الأسواق الدمشقية القديمة والجديدة يضعون بعض الشباب والفتيان على أبواب الدكاكين لجذب الزبائن لمحلاتهم وللشراء من عندهم. وهؤلاء اتفق الجميع في العصر الحديث على تسميتهم بـ«الوشيشة».

تجار سوق الحرير كانوا، ومنذ انطلاقتها، ينادون على الزبائن للشراء من عندهم، ولأن السوق متخصصة في مستلزمات النساء فقط، كانت المناداة هي: «تفضلي يا ست، ولتشتري من عندنا». ولذا أخذت السوق هذه التسمية فيما بعد حيث يلح الباعة المتوقفون أمام حوانيتهم على دعوة كل سيدة تمر في هذه السوق للدخول إلى حوانيتهم لتشتري من البضاعة التي تريدها. وسوق الحرير سوق مغطاة بساتر هرمي مجدد من الحديد والتوتياء، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1594، وكانت تسمى «سوق الذراع»، وذكرها المؤرخون على أنها من أسواق دمشق الكبرى وتكثر فيها المخازن الواسعة وتباع فيها لوازم نسائية من أمتعة وخيطان وعطور ولوازم خياطة ولباس الأفراح النسائية.

ومنذ تأسيس سوق الحرير الدمشقية اشتهرت الكثير من العائلات الدمشقية باستثمار محلاتها والتخصص في بيع القماش الحريري ومستلزمات النساء. ومن هذه العائلات آل الخطيب حيث توارث الأبناء تجارة الآباء والأجداد، واللافت للانتباه أن الجيل الشاب من تجار السوق استطاعوا أن يتكيفوا مع تطورات العصر الحديث والتقنيات الجديدة، وطوروا في طريقة عرض بضاعتهم بما يتماشى مع الأسلوب الحديث. كما أنهم تمكنوا في السنوات العشر الماضية، وبمبادرة ذاتية مع إشراف مديرية المدينة القديمة في مكتب عنبر ودائرة الآثار في دمشق، من ترميم وإصلاح سوق الحرير بشكل تراثي جميل، وحافظوا من خلال هذه الأعمال على السوق وباحاتها ودكاكينها من عوامل الزمن والطبيعة والحوادث المفاجئة. كما تمكنوا من خلالها من تطوير وتحديث دكاكينهم بشكل جميل بحيث يلبي طموحاتهم في توسيع تجارتهم.

وفي السوق تحدث أحد تجارها من الجيل الشاب الذي ورث التجارة عن والده، ويدعى غياث الخطيب، قائلا: «تتموضع سوقنا بين ثلاث أسواق كبيرة، وهي الحميدية والخياطين والقباقبية، ولها ثلاثة مداخل ويصل عدد دكاكينها إلى 400 حانوت، وهناك مكاتب في طوابقها العليا. وفي السوق خان أثري يدعى خان الحرير يضم 72 محلا بطابقين أرضي وعلوي. وقد تطورت السوق في السنوات الأخيرة بشكل كبير، فقبل 25 سنة كان آباؤنا لا يبيعون فيها سوى الأقمشة». ومع التطورات الحديثة وانتشار الألبسة النسائية الجاهزة وقيام سكان الأرياف والمدن الصغيرة بافتتاح محلات لبيع القماش فيها، قل عدد المتسوقات وتغيرت كثيرا تخصصات السوق (ولكنها ظلت متخصصة في بيع مستلزمات السيدات)، حتى لم يعد أحد يبيع قماشا، وتحول الجميع لبيع الإكسسوارات النسائية كالكلف والأزرار وإبر الخياطة والقطنيات وبطرق مختلفة. فمنهم من يبيع بالجملة ومنهم بالتجزئة وتحولت السوق إلى المركز الأول في سورية لبيع لوازم الخياطة، وصار من زبائنها أصحاب مصانع الملابس الجاهزة والشركات المتخصصة في التصاميم وتفصيل الألبسة، حيث يشترون من عندنا مستلزمات صناعتهم.

ويضيف الخطيب: «قبل قليل مثلا بعت لمندوب إحدى الشركات 15 ألف زر، وفي السوق عشرة تجار من كبار تجار سورية في مجال توريد مستلزمات الخياطة والعطور الأجنبية الأصلية ذات الماركات العالمية المعروفة، حيث يأتي أصحاب المحلات الراقية في أسواق دمشق وشوارعها، مثل أبو رمانة والمالكي والقصاع، ليأخذوا حاجة محلاتهم من سوق الحرير». ومن المنشآت التاريخية التي تضمها سوق الحرير أيضا 18 خانا أثريا، منها خان الزعفرنجية والحرمين وقطنا والجمرك، وهي في الأصل سوق ولكن درجت تسميتها بالخان، وهناك مبنى المدرسة الأمينية ووكالة الفيومي.

وحول واقع السوق معماريا قال الخطيب: «الوضع المعماري جيد خاصة بعد أن رممناه على حسابنا قبل ثلاث سنوات، حيث تم تغيير أرضيات السوق وتحديث شبكات الصرف الصحي والمياه والهاتف والكهرباء، واستطعنا إنجاز كل أعمال الترميم والإصلاح في ستة أشهر حيث كانت تتم الأعمال على مدار اليوم ليلا ونهارا». كما تضمنت الأعمال التطويرية تحديث واجهات الدكاكين الخشبية بما ينسجم مع شكل السوق التاريخي وقببها وأروقتها، كما تمت إنارة الدكاكين بشكل تزييني يحاكي عمارة السوق القديمة. ومن جهته قال وليد علا، الذي يمتلك محلا في أحد أفرع السوق ورثه عن والده منذ 35 عاما: «بنيت السوق بالتزامن مع سوق الحميدية، وكانت تدعى خان الجمرك، ولكن فيما بعد ومع دمجها مع سوق الحرير صارت كل أفرع السوق تدعى سوق تفضلي يا ست، وعدد محلات سوقنا الفرعية حوالي 60 محلا، ظل أصحابها أوفياء لتجارة الأجداد، وهي بيع الأقمشة فقط. فنحن نبيع كل أنواع الأقمشة الحريرية والكتانية وغيرها الخاصة بالنساء رغم أن تجارتها لم تعد مربحة بالشكل الذي كانت عليه في السابق، ولكن لم نتخل عن هذه التجارة». ويتميز هذا الفرع من السوق بعمارته التراثية حيث توجد فيه الأقواس الجميلة والأبواب التي لا تزال تحافظ على طرازها البسيط والمعبر عن التراث.