«الحرب الناعمة».. وتسريب المعلومات يوحيان بتآكل مستمر في قلب النظام الإيراني

آخرها يشير إلى أن السلطات استخدمت مجرمين وفتيات ليل لملء صفوف المظاهرات المؤيدة للحكومة

TT

أخفق الضرب وإلقاء القبض والمحاكمات الصورية، بل وحتى القتل، في تثبيط الإيرانيين عن الخروج إلى الشوارع في مظاهرات. إلا أن هذه الأساليب ذاتها ربما تترك بصمتها الكبرى على الحكومة ذاتها، حيث تتسبب هذه الأساليب في تآكل شرعية الحكومة حتى في أوساط الدائرة الضيقة التي تشكل لبها، حسبما أوضح خبراء إيرانيون، مشيرين إلى الأنباء المسربة عن الحكومة باعتبارها الدليل الأكبر على ذلك. بدأ ظهور الأنباء المسربة في ديسمبر (كانون الأول) حول اجتماعات خاصة للخدمات الاستخباراتية والحرس الثوري، كان أولها مذكرة أثارت شعورا بالحرج صادرة عن التلفزيون المملوك للدولة حول كيفية تناول المظاهرات، ومذكرة حول كيف أن قوات الأمن استخدمت مجرمين في ملء صفوف المظاهرات الموالية للحكومة. الملاحظ أنه ليس هناك سبيل للتأكد من صحة هذه المعلومات المسربة، لكن يبدو أن الحكومة تولد لديها غضب وإحباط بالغين إزاء ما وصفته بـ«الحرب الناعمة» للإطاحة بالدولة لدرجة أنها أقدمت أخيرا على تجريم الارتباط بالكثير من وسائل الإعلام الأجنبية وعشرات المنظمات غير الحكومية ومواقع المعارضة على شبكة الإنترنت التي تعد «مناهضة للثورة». جدير بالذكر أن إيران عانت دوما من انقسامات عميقة طالت حتى الحرس الثوري الذي يضرب بجذوره في قناعات آيديولوجية راسخة. وتتجلى هذه الحقيقة على نحو بالغ اليوم، وذلك منذ اندلاع أزمة سياسية في أعقاب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في يونيو (حزيران). حتى بين أكثر العناصر تشبثا بالآيديولوجيات السائدة، هناك مؤشرات على أن البعض منها يدرك أن توجه الضرب بيد من حديد الذي تنتهجه الحكومة تجاه المتظاهرين لا يجدي نفعا، بل وربما يأتي بنتائج عكسية. وفي الوقت الحاضر، على الأقل، لا يتوقع سوى عدد ضئيل من الخبراء سقوط الحكومة. في هذا الإطار، أعربت فريدة فارهي، الخبيرة الإيرانية لدى جامعة هاواي، عن اعتقادها بأن «هناك قدرا كافيا من الالتزام بالإبقاء على الجمهورية الإسلامية في صفوف مجموعة متنوعة من القوى الحكومية والاجتماعية بما يضمن استمرار استخدام القمع والعنف. إلا أن انعدام فاعلية الأساليب المستخدمة في السيطرة على الجماهير، بجانب الجهود غير الناجعة من قبل بعض أكثر القوى تشددا لتطهير النظام السياسي الإيراني من جميع الخصوم، ربما يقنع في النهاية بعض القادة بتبديل وجهات نظرهم». حتى الآن، لم يبد المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، استعدادا للتوصل إلى تسوية مع المعارضة. كما أنه لا يزال محتفظا بولاء القوى الرئيسة في السلطة - قيادات الحرس الثوري وهيئات الاستخبارات وميليشيا الباسيج والقوات المسلحة النظامية والسلطة القضائية - حسبما أوضح خبراء إيرانيون. بيد أنه من الممكن أن تفرض الضغوط الداخلية - في وقت ما - الحاجة للتوصل إلى تسوية سياسية. من جهته، قال علي رضا نادر، المحلل لدى «مؤسسة راند» «منذ يونيو (حزيران)، هناك الكثير من الدلائل توحي بوجود انقسامات عميقة بين القيادات المتشددة للحرس الثوري وأعضاء الحرس والقوات المسلحة النظامية التي يساورها غضب إزاء الانتخابات وما أعقبها من أحداث. ورغم صعوبة التعرف على الحجم الحقيقي لهذه الانقسامات، فإنها تحمل إمكانية إلحاق الضعف بقبضة خامنئي عند مفترق طرق جوهري». من جانبه، أبدى الزعيم الأساسي للمعارضة، مير حسين موسوي، استعداده التوصل لتسوية عندما أصدر بيانا الأسبوع الماضي قال فيه إن القيادة يمكن أن تستعيد شرعيتها إذا ما اتخذت بضع خطوات للتخفيف من إحكام قبضتها على المعارضة وإطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بحرية التعبير وحرية وسائل الإعلام في تناول القضايا والتجمع.

وفي هذا الصدد، قال عباس ميلاني، مدير شؤون الدراسات الإيرانية بجامعة ستانفورد وأحد منتقدي الحكومة، في إشارة إلى حركة المعارضة: «أعتقد أن المسؤولين الساخطين يشكلون بصورة متزايدة مصادر لأنباء مسربة مهمة للصحف ولـ(الحركة الخضراء) حول نشاطات وخطط حول النظام». وربما تشكل هذه التسريبات دليلا على وجود شعور بالصدمة، وربما تكون نتاجا لقرار المرشد الأعلى بتهميش جميع العناصر على الساحة السياسية فيما عدا الأكثر ولاء له. إلا أنه في الوقت الذي تشكل فيه هذه التسريبات دليلا على وجود انقسامات، فإنها تبقى عاجزة عن الإجابة على عديد من التساؤلات بشأن مدى عمق الانقسامات القائمة أو المسار الذي تتبعه الأزمة السياسية أو مدى استقرار الحكومة. وعلى سبيل المثال، أشار ميلاني إلى ما قال إنه تقرير موثوق به يقوم على معلومات واردة عن القيادة العسكرية لطهران الكبرى حول أن السلطات استخدمت مجرمين وفتيات دعارة لتهديد المتظاهرين وملء صفوف المظاهرات المؤيدة للحكومة. وذكر التقرير أنه «تم إخباري بأن الشرطة تطلق عليهم اسم «سيدات النسبة المئوية»، وأنهن ينتمين لصفوف نساء ألقي القبض عليهن لمجموعة متنوعة من الجرائم التافهة، حيث يجري انتقاء العناصر الأكثر ذكاء منهن، ثم يعرض عليهن إطلاق سراحهن مقابل العمل لصالح الاستخبارات» أو الحرس الثوري. وفي 2 يناير (كانون الثاني)، ذكر موقع «رويداد» الإخباري على شبكة الإنترنت أن أحد أنصار المعارضة في الحرس الثوري قدم معلومات مفصلة بشأن جنازة علي موسوي، ابن شقيقة زعيم المعارضة الذي تعرض للاغتيال، والتي سيطرت عليها هيئة الاستخبارات الداخلية لدى الحرس الثوري. وأشار هذا المصدر إلى أنه «منذ الصباح الباكر، اتفق عملاء استخباراتيون لدى الحرس الثوري مع هيئة خاصة بالاتصالات عن بعد على قطع إرسال الهواتف النقالة داخل منطقة مقابر «بهيشت الزهرا» بحيث يصبح من المستحيل على الأفراد تلقي رسائل. وأخبر أعضاء الاستخبارات في الحرس الثوري الحرس الشخصي لمير حسين موسوي أن عليهم إحضاره للمقابر عند لحظة إقامة الصلاة تماما». أخيرا، جرى تسريب مذكرة من قناة «آي آر آي بي» المملوكة للدولة تحدد خطوطا إرشادية لكيفية تغطية المظاهرات، بما في ذلك سبل تقويض مصداقية ادعاءات المعارضة حول وحشية «الباسيج» وقوات الأمن الأخرى. وورد بالمذكرة «استمرار سياسات التطبيع والتهدئة وتوضيح الحقائق من جانب وسائل الإعلام الوطنية لمواجهة التحريض على الفتنة، ينبغي أن تركز الحملات الدعائية على كراهية المحرضين للنظام الإسلامي والإسلام». وفي إطار معلومة أخرى مسربة، في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، أشار موقع «جرس» المعارض على شبكة الإنترنت، إلى اجتماع عقد لتناول إلقاء القبض على القيادات المعارضة الرئيسية: موسوي، ورجل الدين والرئيس السابق للبرلمان مهدي قروبي، والرئيس السابق محمد خاتمي. وقيل إن المشاركين تضمنوا بعض قيادات الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات، إلى جانب ممثل عن مكتب المرشد الأعلى. وقال التقرير إن ممثلي مجلس الأمن الوطني التابع للمرشد الأعلى عارضوا إلقاء القبض عليهم، بينما أبدى آخرون هذه الخطوة. حتى الآن، لم يتم حتى الآن إلقاء القبض على أي منهم. لكن حال القبض على الثلاثة، وإذا استمرت أعمال القمع وحال الالتزام بدعوات الخروج في مظاهرات، يتوقع بعض الخبراء حدوث مزيد من عمليات تسريب الأنباء وربما مزيد من التصدعات في قاعدة تأييد القيادة. من جانبه، قال مايكل أكسورزي، دبلوماسي بريطاني سابق وخبير بالشأن الإيراني ويلقي محاضرات في جامعة إكستر: ستأتي لحظة سيبدأ أفراد من داخل النظام، من «الباسيج» أو «الحرس الثوري»، في التساؤل حول ما يفعلونه وما إذا كانوا سيبقون على ولائهم لهذا النظام.

* خدمة «نيويورك تايمز»