عم محسب.. أقدم «مكوجي رجل» في مصر

يتشبث بمهنته رغم انقراضها.. ويقول إن الحديد صهر الزمن تحت قدميه

عم محسب مع مكواته الحديدية التي أحبها ومصدر دخله الوحيد («الشرق الأوسط»)
TT

عشر سنوات من القرن الحادي والعشرين تمضي لتزيد من شيخوخته، إلا أنه يرفض أن يترك عالمه الخاص الذي عاش فيه غالبية سنوات عمره التي تقترب من 78 عاما، ممسكا بمكواته الحديدية ثقيلة الوزن ذات الذراع الطويلة المنحنية لكي يمارس بها مهنته كـ«مكوجي»، تلك المهنة التي انقرضت فعليا في مصر ولم يعد يعمل بها سوى أفراد قليلين من بينهم محمد حسن الجزيزي الشهير بلقب «العم محسب».

منذ أكثر من 60 عاما ومع إطلالة كل صباح جديد يحني العم «محسب» نصفه الأعلى ويرفع ساقه اليسرى على «المكواة» لكي يمارس كي الملابس الصوفية التي لا تستجيب لسخونة المكواة الكهربائية، خاصة العباءة والجلباب اللذين يفضل ارتداءهما «أولاد البلد» والمتمسكون بالتقاليد في الملبس، ولا يضع قدمه عنها إلا بحلول أذان المغرب.

بدأت رحلة عم «محسب» في عالم كي الملابس منذ سنوات شبابه الأولى، عندما نال قسطا بسيطا من التعليم لسنوات قليلة في بلدته «منوف» بمحافظة المنوفية، ثم ترك الدراسة بسبب عدم حبه للمعلم.

يحكي رحلة أعوامه الثمانية والسبعين وهو ينظر إلى مكواته العتيقة كأنه يلتقط منها الذكريات التي نقشتها السنوات على جسمها الحديدي «بعد أن تركت الدراسة قررت العمل، كان خالي وقتها يعمل (مكوجي رجل) ولديه محل خاص به في مدينة سرس الليان التي تجاور بلدتنا وله زبائن كثيرون، قررت العمل معه، فهو لن يبخل علي في تعليمي الصنعة، وبالفعل التحقت بالعمل معه لسنوات قليلة، ثم قررت التوجه إلى القاهرة، فهي العاصمة، والرزق هناك واسع».

تنقل الشاب «محسب» بين «مكوجية الرجل» في أحياء القاهرة، عمل لدى «أسطوات» العتبة وشبرا وعابدين، وعندما تكوّن له رأس المال اللازم لافتتاح محل خاص به استقل بصنعته وكان محله الأول في حي الدقي ومنه إلى الجيزة، وهما من الأحياء الراقية في ذلك الوقت.

«المكواة هي المهنة الوحيدة التي تعلمتها، أعرف أصولها جيدا، أحببتها فأحبتني وأحبني زبونها»، هذا ما يتحدث به العم «محسب» متذكرا زبائنه المشهورين في ذلك الوقت وعلى رأسهم المخرج السينمائي الشهير حسن الصيفي، إلى جانب عدد كبير من الموظفين من أصحاب المناصب المرموقة في الحكومة، كما يتذكر أول «تسعيرة» وضعها للكي قائلا «أول أجر على الجلباب كان (3 صاغ) والصوف (5 صاغ) والعباءة (10 صاغ)، كان ذلك في أواخر الخمسينات، أما اليوم فالدنيا اتغيرت وكل حاجة غليت».

آلاف القطع من الملابس وضعها العم «محسب» أسفل قدمه لتحمل علامة جودة من مكواته، لكن مع مرور السنوات قل الإقبال على تلك المكواة التقليدية مع انتشار المكواة الكهربائية والتي امتهن الكي بها الكثير، إلى جانب انتشارها في كثير من المنازل، بالإضافة إلى تراجع الإقبال على ارتداء الملابس الصوفية بشكل عام، لذا قرر عم «محسب» أن يعود مجددا مرة أخرى إلى مسقط رأسه في محافظة المنوفية ولكن هذه المرة إلى مدينة «قويسنا»، فلا يزال الزبائن بها يتمسكون بالتقاليد الريفية في الملبس خاصة ارتداء العباءة والجلباب والملابس المصنعة من الصوف من بدل وأقمشة.

تطورت أساليب الكي ولكن عم «محسب» لا يزال متمسكا بمكواته الحديدية حتى اليوم، يعرف المكواة «البخار» لكنه لم يسمع من قبل عن المكواة «الكبس» التي تستخدم في مصانع الملابس الجاهزة، يقول «زبائن المكواة (الرجل) ما زالوا موجودين، ويأتون من كل القرى والمحافظات المجاورة، وهم من يقدرون قيمتها وجودتها، غالبيتهم ينتمون إلى كبار السن، أما الشباب فلا يعرفون طريق مكواتي الحديدية، حيث يفضلون عليها المكواة البخار، وهي بالفعل رحمة لمن يعمل بها، لكني تعودت على مكواتي الحديدية ثقيلة الوزن، وهي مصدر دخلي الوحيد رغم أنها مهنة شاقة، ولم أستطع أن أغيرها، فكما يقول المثل الشعبي (كل شيخ وله طريقة)».

ما يجذبك في عم «محسب» بساطته في كل شيء؛ ملبسه وكلامه ومعيشته وشخصيته وحتى مكواته، فداخل محله الذي لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار، يبدأ عم «محسب» يومه بما يسميه المصريون «الاصطباحة»، وهي لديه تمثل إفطارا من الفول والطعمية وكوبا من الشاي، وأثناء ذلك يقوم بترك المكواة للتسخين حيث تقلب على ظهرها ثم توضع على النار، وتستغرق عملية التسخين نحو ربع الساعة إلى ثلث الساعة لتكون جاهزة للكي، وعندما يرفعها يضع مكواة ثانية يملكها للتسخين، وتستمر عملية التبادل بين المكواتين حتى انتهاء اليوم.

بخلاف المكواة الحديدية فهناك أدوات مساعدة يستخدمها عم «محسب»؛ مثل لوحة الكي، وهي عبارة عن قلب شجرة يتم تغطيتها بقطعة من القماش الأبيض، و«البزجأ» وهي قطعة خشبية ذات تجويف يتم وضعها وإحكامها على أعلى المكواة لكي يضع المكوجي قدمه عليها فتمنع الحرارة من الوصول إليه وتجعله يتحكم في المكواة كما يشاء، وهناك «الصاجة» التي توضع عليها المكواة بعد رفعها من على النار، وأيضا أثناء عملية ضبط الملابس وتقليبها وقت الكي، كما يستخدم قطعة من «الإسفنج» لرش المياه على قطعة الملابس المراد كيها، وأخيرا قطعة من «الصابون» لكي تساعد المكواة على التحرك بسهولة.

عندما يهيئ عم «محسب» هذه الأدوات يكون جاهزا لممارسة مهنته: «أستند على قدمي اليمنى وأضع اليسرى على المكواة فهو وضع يجعلني أضغط على المكواة وأتحكم بها جيدا، ثم أنحني بنصفي الأعلى وأقوم بتوجيه المكواة من الذراع يمينا ويسارا كما أريد حتى تتم عملية الكي، وأحيانا أقوم بالدق بالمكواة على الأجزاء السميكة من الملابس والتي لا تستجيب بسهولة للفرد». يشكو عم «محسب» من الانحناءة التي تسبب له الصداع وألم الظهر، وأيضا من إصابته بمرض الدوالي في قدمه اليمنى التي يرتكز عليها أثناء الكي، ولكنه رغم ذلك يواصل عمله بجد باذلا مجهودا كبيرا، أصبح لا يتناسب مع سنوات عمره، ومنطقه في ذلك «ما هو لازم أكوي حلو عشان ربنا يبارك لي في صحتي».

يُظهر «مكوجي الرجل» المسن موهبة أخرى غيمت عليها سحب الشيخوخة، فالرجل يهوى الغناء ويعشق أم كلثوم وفريد الأطرش، تسمعه «يدندن» بأغنياتهما وهو يمارس الكي، بل تتعدى موهبته الغنائية إلى تأليف الشعر الغنائي، يقول «من عشقي لصوت أم كلثوم قمت بكتابة أغنية خصيصا لها عنوانها (كلمتك عن روحك)، وذهبت لكي أعطيها لها في منزلها بالزمالك، لكنها كانت مريضة ولم أستطع رؤيتها».

يواصل «كذلك كتبت أغنية بعنوان (مضينا) لأعطيها للفنان فريد الأطرش، وعندما فشلت في الوصول إليه قمت أنا بتلحينها»، يغرق عم «محسب» في ذكرياته للمرة الثانية لثوان ثم يبدأ في الغناء: «مضينا.. مضينا.. وقضينا أيامنا.. ما تنساش مش هانسى.. هو أنا قاسي عشان أنسى.. أنا فاكر مش هانسى».

عند هذا الحد يتوقف عم «محسب» عن الغناء بعد أن لاحظ برودة المكواة ليهم باستبدال الأخرى الموجودة على النار بها «المكواة لا تتعطل، فهي تعيش العمر كله لأنها من الحديد والزهر، على العكس هي اللي بتدوّب من يعمل عليها، وأنا الزمن انصهر تحت قدمي»، ويصمت للحظات مواصلا حديثه بنبرة حزن «للأسف هذه المهنة سوف تنقرض نهائيا في المستقبل، خاصة أن العاملين بها يمكن أن يعدوا على أصابع اليد، وهم من كبار السن، ولا يوجد أحد من الشباب الآن يتقنها أو يمارسها».. ثم يعود لمكواته الساخنة، ولأغنيته، وكأنه يبسط الزمن بمحبة على جسد الجلباب المسجى أمامه.