قبلة الحياة لفنون وحرف مصرية قديمة في طريقها للذبول

بفرض حفظ حرف الخزف والنسيج اليدوي والزجاج المعشق

دقة في العمل بالحرف اليدوية (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

في قبو ملحق بوكالة الغوري التاريخية يخرج من بين جدرانه عبق التاريخ، أسند الفنان، الناقد التشكيلي، عز الدين نجيب، رأسه على إصبعه، وبدا كمن يحمل أمانة على وشك الاندثار، فقد أخذ على عاتقه مهمة شبه مستحيلة، وهي الحفاظ على تراث فنانين وحرفيين أجداد بلغت شهرتهم الآفاق، وارتحلوا جماعة ليشيدوا أبنية الإمبراطورية، قبيل أن تذبل مهاراتهم، وتقف وحيدة عطشى في طريقها للموت.

في عام 1994، كان نجيب مسؤولا عن مراكز الحرف التقليدية بوزارة الثقافة المصرية، وتمكن من تطوير 6 مراكز رئيسية في القاهرة، مهمتها حفظ الحرف اليدوية، كالأرابيسك، والخزف، والنسيج اليدوي، والزجاج المعشق، وشملت خططه تدريب حرفيين جدد، وعرض أعمالهم للجمهور، إضافة إلى زيادة وعي المصريين بقيمة تلك الحرف التراثية.

وعقب خروجه من منصبه، خشي نجيب أن تضيع جهوده هباء، خاصة أنه مع إيمانه بأن المصريين يؤمنون بمقولة «مشروع الرجل، وليس رجل المشروع» اختار أن يواصل جهوده عبر العمل الأهلي، فكانت جمعية «أصالة»، وتمكن عبر إشرافه على النشاط الثقافي في وكالة الغوري من أن يقتطع مبنى ملحقا بها كمقر للجمعية، لكنه واجه حربا شرسة من جهات كثيرة، باعتبار أن المبنى أثري، ويحتاج لموافقات رسمية. وقد كان يرى أن تعمير الأماكن الأثرية بنشاط ثقافي يتوافق مع أهدافها غرض إنساني نبيل تشجعه اليونسكو، خاصة أن المبنى كان مخازن مهملة، وخرجت منه أطنان من الأتربة والقمامة المتراكمة عبر قرون. ولقد نال ما أراد في النهاية، وبدأت رحلة «طواحين الهواء» كما يسميها.

وقد بدأت «أصالة» بعضوية 23 عضوا من الحرفيين المتمركزين وقتها في وكالة الغوري، ثم تضاعفت أعداد الأعضاء حتى وصلوا إلى ما يقرب من 300 عضو، يشرف عليهم مجلس إدارة مكون من 9 أشخاص، يجدد ثلثهم كل عامين، وتضم الجمعية عدة لجان لأنشطة مختلفة، منها لجنة الثقافة، ولجنة الإعلام، وأخرى للتسويق، ولجنة للمرسم.

ومن بين أنشطة الجمعية تدريب حرفيين جدد على الفنون المختلفة، وعرض منتجات الفنانين والحرفيين المحترفين في معارضها وقاعاتها، داخل وخارج مصر، ومحاولة تأدية دور الجسر بين أعضاء المهن العتيقة، لتبادل الخبرات وحل المشكلات.

وقد أقامت الجمعية معارض كثيرة، منها ما ضمته هيئات وتجمعات مصرية، مثل معرض الكتاب أو دار الأوبرا، وبعضها في الخارج، حيث تعرض منتجات الفنانين في ميونيخ ومونتريال وفرنسا، لكن نشاطها التسويقي لا يغطي 10 في المائة من إجمالي مصروفاتها. ومن هنا، فهي بالأساس تعتمد على الهيئات المانحة، كالصندوق الاجتماعي المصري، وصندوق التنمية الثقافية، أو عرض المؤسسات الدولية، كمؤسسة أغاخان.

وقد تمكنت الجمعية، عبر منحة من مؤسسة أغاخان، من أن تدشن عملا موسوعيا ضخما؛ هو موسوعة الحرف التقليدية، التي حصرت الفنون والحرف التقليدية في مصر، وشيوخها، وأهم صناعها، وأماكن تمركزها، إضافة إلى طرق صناعتها، والخامات الداخلة فيها، وقد نفذت الموسوعة عبر باحثين ميدانيين متخصصين، وصدر منها أجزاء ثلاثة، بينما سيصدر الرابع الشهر الحالي مع افتتاح معرض القاهرة للكتاب.

وكانت للموسوعة فائدة أخرى، فقد مكنت مسؤولي الجمعية من إضافة أعضاء جدد لها، لتقديم العون الفني والتسويقي لهم، كما أثروا هم بدورهم أنشطتها، وساهموا في زيادة الوعي الفني بقيمة حرفهم.

ورغم جهد نجيب وفريقه، فإنه يواجه عقبات ضخمة، أهمها ضعف التمويل. فمع أنه توجد زيادة للطلب على تلك النوعية من الفنون في أوروبا، فإن الشركات التجارية تريد صفقات ضخمة، وكما يقول «لا أملك مالا لتنفيذ تلك الصفقات»، كما أن الهيئات المانحة لا تقدم دعمها بشكل دائم، وتحدد غرضه، وغالبا ما يقتصر على التدريب فقط. وكانت لنجيب محاولات فاشلة مع رجال أعمال مصريين لتقديم دعمهم لإثراء تلك الحرف العتيقة، لكن تجاربه معهم ليست إيجابية، حيث يتحمس البعض وتجري الاتصالات، ثم يصاب الجميع بالخرس، حسب تعبيره. ويشعر نجيب بالأسى كثيرا على حال تلك الحرف التي أفنى عمره في محاولة إنعاشها، ويقول «أصبت بالصدمة عندما وجدت منتجات صينية تغزو الأسواق المصرية، من مشغولات الذهب والنحاس والمنسوجات التراثية، صناعتها رديئة، وخالية من الفن، والروح، وهي الصدمة نفسها التي أصابتني عندما علمت أن الجامعة الأميركية استقدمت خبراء في البناء بالحجر، لبناء مبناها الجديد في القاهرة الجديدة، فنحن من علمنا الأتراك هذه الصنعة، بل ذهب العمال المصريون إلى اسطنبول قسرا، بأمر من السلطان سليم الأول، لتشييد مدنهم، وها هي بضاعتنا ترد إلينا».