يتوقع سيد إمام الشريف المعروف بالدكتور فضل أن تنتصر طالبان وتعود إلى حكم أفغانستان على الرغم من التفوق التكنولوجي لأميركا، ويبرر ذلك بتوافر مقومات حرب العصابات الناجحة لطالبان، يدعمه ما تحظى به طالبان من دعم كامل من قِبل المخابرات الباكستانية وهي العلاقة التي يكشف المؤلف الكثير من أسرارها في حلقة اليوم.
يستهل الدكتور فضل فصله الرابع الذي حمل عنوان كتابه «مستقبل الصراع بين أميركا وطالبان في أفغانستان» بالحديث عن أقسام الحروب ويقسمها إلى خمسة أنواع: الحرب التقليدية - حرب العصابات - الثورة الشعبية - الحرب الأهلية - العمليات الخاصة.
ثم يتحدث المؤلف في الجزء الأول من هذا الفصل عن توفر مقومات حرب العصابات الناجحة لصالح طالبان ضد أميركا قائلا: «وصف بن لادن دولة طالبان قبل 11/9 بأنها (تمثل راية الإسلام)، ووصفها تابعه الظواهري بأنها (رأس مال الإسلام في هذا الزمان). وقد سقطت هذه الدولة (إمارة طالبان الإسلامية) بعد نحو شهر ونصف من بدء القصف الأميركي على أفغانستان في 7/10/2001 كنتيجة مباشرة لتفجيرات بن لادن في 11/9. سقطت طالبان ضحية خيانة بن لادن لأميره وغدره بعدوه.
لم يقتصر إضرار بن لادن بطالبان على تدميرها بسبب 11/9، بل قد أضرها عدة مرات من قبل، منها:
أشار على طالبان برفض مد خط أنابيب بترول، عرضت أميركا مَدّه من آسيا الوسطى جنوبا عبر أفغانستان إلى بحر العرب عبر باكستان. وكانت طالبان في أشد الحاجة إليه إذ كانت ستحصل على أموال ووقود مجاني مع تحسين علاقاتهم الدولية. ولكن بن لادن أشار عليهم برفض هذا العرض من أجل مصلحته الخاصة إذا كان لا يرغب في أن تقترب أميركا من ملاذه الآمن في أفغانستان، وفي المقابل لم يقدم شيئا لطالبان.
ومنها بعد تفجيراته في نيروبي 1998، فرضت الأمم المتحدة عقوبات على طالبان لإيوائها بن لادن، فزادت من المعاناة الاقتصادية للأفغان. ومنها حرص بن لادن على قتل القائد الشمالي أحمد شاه مسعود قبل 11/9، فقتله قبلها بيومين (في 9/9/2001)، وكان يريد بذلك أن يقدم رشوة لطالبان (بقتل زعيم المعارضة الشمالية ضدهم) حتى لا يلوموه على تفجيرات 11/9 التي فعلها دون علمهم وبخلاف تعليماتهم له بعدم الصدام مع أميركا. على الرغم من أن قتل مسعود كان ضد سياسة طالبان التي كانت تعتبره من رموز الجهاد وكانت ترغب في حل مشكلاتها معه بالتفاوض. وكان بن لادن لا يتوقع احتلالا أميركيا لأفغانستان، وقد أثار قتل مسعود ثائرة أتباعه الذين ساعدوا أميركا وانتقموا من العرب ومن طالبان أبشع الانتقام مع بدء الغزو الأميركي لأفغانستان.
هذه هي الأسباب الظاهرة لسقوط طالبان والتي يدركها المسلم وغير المسلم، إلا أن الأسباب الحقيقية لهذا السقوط لا يدركها إلا أولو العلم وهى الأسباب الكونية القدرية كالمذكورة في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص 59)، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في المسألة الثالثة بهذا الفصل إن شاء الله.
والحاصل أن طالبان قد سقطت وذهبت دولتها بنهاية عام 2001، ضحية لمغامرات بن لادن الذي هرب هو وأصحابه وتركها تدفع ثمن كرم الضيافة. ثم لملمت طالبان شتاتها وبدأت هي وغيرها من الأفغان - مثل حكمتيار - في خوض حرب عصابات ضد المحتلين (أميركا وحلفائها) في أقل من عام من بدء الاحتلال. والمتوقع أن تنتصر طالبان وتعود لحكم أفغانستان على الرغم من التفوق التكنولوجي للمحتلين نظرا إلى توفر مقومات حرب العصابات الناجحة لطالبان ضد المحتلين، والتي هي إجمالا: دعم الشعب الأفغاني (الجماهير) لطالبان، ودعم دول مجاورة لها مصالح مشتركة مع العصابات (طالبان)، وطبيعة أرض المعركة (أفغانستان). هذا إجمالا. أما على التفصيل فإن العوامل التي في صالح طالبان، منها:
1- عامل الدين: أي حركة جهادية أو إسلامية لا تسبقها وتصاحبها حركة إصلاح ديني فمصيرها إلى الفناء أو الانحراف أو السرقة بواسطة العلمانيين. وقد سبق إنشاء دولة طالبان وصحبها حركة إصلاح ديني، وبهذا تمكنت من السيطرة على معظم أنحاء أفغانستان وفرضت الأمن والنظام وحاربت الجريمة وكثيرا من المنكرات فيها ما بين 1996 و2001، وتمكنت طالبان من وقف زراعة الأفيون بفتوى واحدة من الملا محمد عمر عام 2000 على الرغم من الحصار الدولي وحاجتها إلى المال حينئذ. ولمّا كان الدين هو أساس نشأة حركة طالبان (ومعناها طلاب المدارس الدينية) فقد حرصت الحركة على إنشاء المدارس الدينية بكثرة داخل أفغانستان فور توليها السلطة، فضلا عن المدارس التي تعلم فيها قادة الحركة في باكستان من قبل. وكلاهما يمد الحركة بالأتباع والجنود، وسيستمر هذا لزمن طويل. فكان الدين سبب قيام طالبان وسبب استمرارها في الحكم وسبب استمرارها في المقاومة حتى الآن ضد عدو مخالف في الدين من السهل حشد الشعب ضده في مجتمع يسيطر عليه المولوية. في حين أن أحزابا مثل أحزاب سياف ورباني لم تصمد قبل ذلك لأنها قامت أساسا على المال والولاء القبلي.
2- عدالة قضية طالبان: فهي تقاوم عدوا محتلا، وهذا مشروع حتى في قوانين الأمم المتحدة والدول الغربية، فقد حاربت أميركا بريطانيا حتى طردتها واستقلت عنها عام 1776م، وحاربت فرنسا المحتل الألماني والحكومة الفرنسية الموالية له (حكومة فيشي) حتى طردتهم في الحرب العالمية الثانية، وفي نفس الحرب حاربت أستراليا والصين وغيرهما المستعمر الياباني، وأمثلة المقاومة المشروعة ضد الاحتلال كثيرة.
3- الرابطة القبَلية: فالبشتون هم أعلى النِّسب من سكان أفغانستان ويشترك معهم في العِرق بشتون باكستان (الباتان) في المنطقة الشمالية الغربية من باكستان، ويعتبر البشتون على جانبَي الحدود أنفسهم شعبا واحدا، ويقولون [نحن باكستانيون من ستين سنة (أُنشئت دولة باكستان عام 1947)، ونحن مسلمون من 1400 سنة، وبشتون من آلاف السنين]، وولاء بشتون باكستان لبشتون أفغانستان أعظم من ولائهم لحكومتهم في إسلام آباد، ولديهم استعداد لدعمهم بلا حدود. وعلى الرغم من أن رئيس أفغانستان الحالي (حميد كرزاى) بشتوني فإنهم يرون أنه جاء على ظهر دبابة أميركية، فهو منبوذ وليس له سند ديني.
4- تعاون الشعب: معظم الشعب الأفغاني - وللعوامل السابقة - متعاون مع طالبان ويوفر لها المأوى والدعم ويمدها بالمعلومات ويضلل العدو عنهم، حتى إن قطاعات كبيرة من الجيش والشرطة الحكومية في أفغانستان تتعاون مع طالبان.
5- طبيعة الأرض: أرض أفغانستان مثالية لحرب العصابات، فهي شاهقة معقدة، وفيها مناطق كثيرة لا يمكن الوصول إليها بالسيارات وإنما بالدواب، وهي سلسلة جبال الهندكوش التي هي امتداد لسلسلة جبال الهيمالايا، ومعظمها يغطيها الثلج الذي يقطع الطرق في فصل الشتاء، وفي الجملة: الجبال تمثل قواعد آمنة مثالية للعصابات، فالجغرافيا في أفغانستان في صالح طالبان وهى أدرى بها. ويمكن القول إن أميركا في أفغانستان هي في الحقيقة تحارب الجغرافيا، ومن يحارب الجغرافيا فهو مهزوم. في القرن الثامن عشر حاولت السويد غزو روسيا من جهة الغرب ففشلت، وفي القرن التاسع عشر كرر نابليون نفس الخطأ فحاول غزو روسيا من جهة الغرب ففشل، وفي القرن العشرين كرر هتلر نفس المحاولة ففشل، فهم لا يتعلمون من أخطاء غيرهم رغم دراستهم للتاريخ العسكري. روسيا لا يصلح غزوها إلا من جهة الشرق كما غزاها القائد المغولي تيمورلنك في القرن الرابع عشر الميلادي، واستوطنها التتار من وقتها وما زالوا يشكلون أقلية مسلمة محافِظة في روسيا إلى اليوم. فمن يحارب الجغرافيا فهو مهزوم.
6- التخلف والبدائية: التخلف الحضاري الذي عليه الشعب الأفغاني يصب في ترجيح كفة طالبان في صراعها مع المحتلين من عدة نواحٍ:
- منها ما ذكره أبو عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله في الفصل السادس عشر من (المقدمة) قال: (في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر، فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم) (المقدمة ص125، ط دار الشعب).
- ومنها أنه لا توجد في أفغانستان أي منشآت أو معالم حضارية يُخشى عليها الخراب والتلف، معظمها جبال شاهقة ترتفع ما بين ثلاثة وستة آلاف متر، ولا تؤثر فيها القنابل الذرية. وأيام الجهاد الأفغاني الأول قال سياف: (روسيا تحاربنا بالتقدم ونحن نحاربها بالتخلف، لقد جربوا فيها كل أسلحتهم الحديثة إلا القنبلة الذرية).
- ومنها أن الأفغان حياتهم بسيطة وقليلة التكاليف، ومعظمهم ليس لديه ما يخسره، كما أنه شعب ذو جَلَد وصبر، ولقد مارست روسيا ضدهم لفترة سياسة الأرض المحروقة فدمرت قرى بأكملها لطرد المجاهدين منها، وقد تحملوا ذلك وصبروا عليه، وقد عاصرت هذا كله، وكان الأفغان يصبرون ويموتون في صمت.
7- اتساع جبهة الحرب: الصراع بين طالبان والمحتلين في أفغانستان اليوم ليس محصورا في حرب بين جيشين على الحدود، أو في تمرد أهل قرية أو مدينة. وإنما هي حرب ممتدة في معظم أرض أفغانستان التي تعجز قوات الاحتلال عن الانتشار فيها مهما زادت من عددها وعدتها، وكلما زاد انتشار قوات الاحتلال زادت نفقاتها وخسائرها. في حين أن طالبان لديها القدرة على الانتشار دون تكلفة تُذكَر وهي صاحبة الأرض وأعلم بها.
8- عامل الزمن والقدرة على تحمل الخسائر: كلاهما في صالح طالبان، وليس لديهم سقف للخسائر خصوصا في الأرواح، ويتقبلون الموت بلا ضجر خصوصا في الجهاد، وقد رأيت ذلك بنفسي حين عملت في الخدمة الطبية في أثناء الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية لمدة عشر سنين (1983 - 1993). أما أميركا وحلفاؤها فلديهم سقف لاحتمال الخسائر بحسب قوانين الحرب، وكل يوم يمر عليهم يعني مزيدا من الخسائر في الأرواح والأموال خصوصا مع طول خطوط الإمداد (الدعم اللوجستي) للمحتلين بما يجعل الإمداد في ذاته مكلفا ومهددا.
9- العمليات الانتحارية التي ينفذها الأفغان ضد المحتلين تعوّض نقص التسليح لديهم.
10- الخبرة المتراكمة لدى الأفغان: فقيادات الجهاد الأفغاني ضد أميركا الآن قد مارسوا الجهاد وحرب العصابات عمليا ولسنوات طويلة ضد روسيا من قبل، فلديهم خبرات حربية ومعرفة جيدة بالأرض، مثل الملا محمد عمر وجلال الدين حقاني وحكمتيار وغيرهم.
11- السوابق التاريخية: لم تفلح دولة أجنبية في احتلال أفغانستان لا بريطانيا - وقتما كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس - في القرن التاسع عشر، ولا الاتحاد السوفياتي على جبروته وقربه من أفغانستان في القرن العشرين. و(العادة محكّمة). وأميركا تكرر المحاولة الآن وهي محكوم عليها بالفشل كمن سبقها.
12- دعم باكستان لطالبان: لا يمكن أن تستمر حرب عصابات أو أن يختفي زعيم تمرد لسنوات إلا بدعم قوي من دولة أو دول لها مصالح مشتركة، وهذه من البديهيات، ولها أمثلة كثيرة. وكما استمر الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفياتي لسنوات بدعم واضح من باكستان ومن ورائها أميركا، فكذلك قتال طالبان ضد أميركا مستمر اليوم بدعم باكستاني أيضا.
وباكستان لها سياستان مع أميركا:
سياسة ظاهرة ودّية: وهي التعاون في مكافحة الإرهاب للحصول على مساعدات وشهادة حُسن سير وسلوك من أميركا والمجتمع الدولي.
وسياسة باطنة عدائية: هدفها إذلال أميركا والانتقام منها بتوريطها في أفغانستان وغيرها عن طريق دعم طالبان وحلفائها لإطالة أمد الحرب لإنهاك أميركا، حتى تحصل باكستان على ما تريد.
أيام الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية كنا نتعجب من بطء تقدم المجاهدين على الرغم من أنه كان بإمكانهم حسم الصراع مع الاتحاد السوفياتي في مدة وجيزة، فقال لنا بعض قادة المجاهدين: إن إطالة مدة الحرب مقصودة لذاتها لإنهاك روسيا، وكانت باكستان تزودهم بصواريخ وتأمرهم بإطلاقها على كابل في أوقات معينة لتحقيق أهداف سياسية، وكثيرا ما كان ضباط الجيش الباكستاني يشرفون بأنفسهم على المجاهدين داخل أفغانستان خصوصا عندما يزودونهم بسلاح جديد، وقد عاصرت هذا كله.
والسياسة الظاهرة لباكستان مع أميركا يديرها الساسة، والباطنة يديرها جهاز المخابرات الباكستانية العسكرية وهو الحاكم الفعلي لباكستان منذ نشأتها كدولة استقلت عن الهند عام 1947. وهذه المخابرات ليست جهازا واحدا وإنما عدة أجهزة ذات توجهات مختلفة وإن كانت بينها قواسم وثوابت مشتركة. وهذه المخابرات هي التي حذرت بن لادن من ضربة أميركية وشيكة على معسكراته في أفغانستان بعد تفجيرات نيروبي 1998، فخرج بن لادن منها وأقام قرب كابل.
أما السياسة العدائية الباكستانية نحو أميركا فسببها الثأر وتعارض المصالح:
فمن الثأر والانتقام: أن أميركا فرضت عقوبات على باكستان أدت إلى عدم تسليمها صفقة طائرات متقدمة دفعت باكستان ثمنها مقدما على الرغم من تعاون باكستان مع أميركا ضد الاتحاد السوفياتي. ثم فرض الكونغرس الأميركي عقوبات أخرى على باكستان بعد تجربتها النووية في 1998. وقبل ذلك قامت أميركا بإفلاس بنك الاعتماد والتجارة لما أشيع عن دوره في تمويل البرنامج النووي الباكستاني. ثم ضغطت أميركا على باكستان لتحاكم عبد القدير خان (أبو القنبلة الذرية الباكستانية) رغم أنه بطل قومي في باكستان. ولم تفعل أميركا شيئا من ذلك ضد الهند (العدو التاريخي لباكستان) رغم مشروعها النووي المتقدم بل عقدت أميركا اتفاقية تعاون نووي مع الهند عام 2008 ورفضت أن تعقد مثلها مع باكستان فلجأت إلى الصين.
ومن تعارُض المصالح أن أميركا أطاحت بطالبان الموالية لباكستان التي لا تقبل بحكومة أفغانية غير موالية لها - حتى لو كانت من البشتون مثل كرزاي - حتى لا ينكشف ظهر باكستان من الغرب كما هي مكشوفة شرقا أمام الهند. ولهذا دعمت باكستان حكمتيار (الرجل المفضل لدى المخابرات الباكستانية) ضد برهان الدين رباني الذي تقارب مع الهند فور توليه رئاسة أفغانستان عام 1992. ثم كانت المخابرات الباكستانية واقعية عندما تخلت عن رجلها الأول (حكمتيار) لصالح دعمها لطالبان التي أثبتت مقدرتها على ضبط أحوال أشد الشعوب شراسة في العالم (الأفغان) ومقدرتها على إعادة الأمن والاستقرار لأفغانستان في فترة وجيزة بعدما فشل حكمتيار في حسم النزاع مع رباني خلال أربع سنوات من الحرب الأهلية الطاحنة (1992 - 1996). وما زالت طالبان وحلفاؤها الورقة الرابحة التي تلعب بها المخابرات الباكستانية مع أميركا. وكأن هذه المخابرات بدعمها لطالبان وبإطالتها أمد الحرب في أفغانستان ترسل رسالة ضمنية لأميركا: والمطلوب حل ملفات باكستان المعقدة مع أميركا - لا مجرد دفع الملايين أو المليارات - لتستقر الأمور في أفغانستان.
وعلى الرغم من أن اسمها (جمهورية باكستان الإسلامية) فإنها لم تكن إسلامية أبدا منذ نشأتها، بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وإنما هي دولة علمانية تستغل الإسلام كقومية سياسية توحد أعراقها المختلفة في مواجهة القومية الهندوسية في الهند. وعلى الرغم من مظهرها الديمقراطي فإنها دولة تحكمها المخابرات. ولباكستان ثلاثة ثوابت سياسية استراتيجية لن تتخلى عنها من أجل أميركا، لأنها بالنسبة إلى باكستان مسألة حياة أو موت، ويقوم على رعاية هذه الثوابت الجيش الباكستاني وتحديدا جهاز المخابرات العسكرية، وهذه الثوابت الثلاثة هي:
الأول: العداء مع الهند: حتى عام 1947 كانت الهند وباكستان وبنغلاديش دولة واحدة هي الهند، التي استعمرتها بريطانيا لمدة نحو مائة عام، وكانت قبل احتلالها تتكون من عشرات الإمارات التي يحكمها الملوك المغول المسلمون الذين ما زال مسلمو باكستان يفخرون بهم ويتسمّون بأسمائهم (مثل أورنجزيب، وشاه جيهان، وأكبر خان، وجيها نجير، وغيرهم). ودعمت بريطانيا الهندوس ضد المسلمين - لأن المسلمين خاضوا جهادا طويلا ضد بريطانيا - فسلمت بريطانيا المناصب الحكومية للهندوس، وشيئا فشيئا شعر المسلمون بالاضطهاد والتهميش، ومع ظهور دعاوى استقلال الهند عن بريطانيا طالب المسلمون بدولة مستقلة لهم عن الهندوس.
وصاحب هذه الفكرة الشاعر محمد إقبال ودعمه فيها أبو الأعلى المودودي، واختار المسلمون المناطق الهندية ذات الأغلبية المسلمة لإنشاء دولتهم في شمال شرق الهند (وهي باكستان الشرقية التي استقلت باسم بنغلاديش - أي بلاد البنغال - في 1971) وفي شمال غرب الهند (وهي باكستان الغربية أو باكستان منذ 1971 بعد استقلال بنغلاديش). ومعنى باكستان الأرض النقية (للمسلمين ونقية من الهندوس). ومع الاستقلال عن بريطانيا عام 1947 حدثت هجرة واسعة من مسلمي الهند إلى باكستان ومن الهندوس في المناطق الإسلامية إلى الهند، وحدثت بين الطرفين مذابح بشعة في أثناء الهجرة سقط فيها مئات آلاف القتلى. وأول رئيس لباكستان وهو محمد علي جناح الملقب بالقائد الأعظم كان إسماعيليا (وهي طائفة مرتدة من فرق الشيعة). ونظرت الهند إلى باكستان على أنها دولة انفصالية مارقة يجب أن تعود إلى الوطن الأم، ووقعت بينهما 3 حروب، والهند هي التي ساعدت بنغلاديش على الانفصال عن باكستان في 1971. وبقي مسلمون في الهند عددهم كعدد مسلمي باكستان، ونظروا إلى مسلمي باكستان على أنهم خذلوهم وأضعفوهم بالاستقلال. وبقيت المشكلة المزمنة بين الهند وباكستان وهي مشكلة كشمير التي تسكنها أغلبية مسلمة في أقصى شمال الهند، وكان المفروض أن تكون جزءا من باكستان إلا أن الهند استولت على نصفها الشرقي وانضم نصفها الغربي (كشمير الحرة) إلى باكستان. وما زالت باكستان تطالب بكشمير الهندية التي غيرت الهند تركيبتها السكانية ونقلت إليها كثيرا من الهندوس. ويوجد الكثير من الجماعات المقاتلة في كشمير الهندية تدعمها المخابرات الباكستانية إما مباشرة وإما بواسطة جماعات إسلامية في باكستان (وبخاصة الجماعة الإسلامية التي أسسها المودودي والتي تُعتبر الواجهة الإسلامية للمخابرات الباكستانية).
تتكون باكستان من أربعة أعراق وهي قابلة للتقسيم إلى أربع دويلات: العِرق السندي جنوب شرق باكستان، والبنجابي شمال شرق، والبشتون شمال غرب، والبلوش جنوب غرب، والذي يُبقي على هذه الأعراق غير المتجانسة موحدة هو التوحد ضد العدو الخارجي وهو الهند المخالفة في القومية والدين. والذي يُبقي على العداء مع الهند مستمرا هو النزاع على كشمير. فالإسلام وقضية كشمير ما هما إلا أوراق سياسية مهمة لوحدة باكستان. الثابت الثاني لباكستان: هو السلاح والبرنامج النووي، الذي تعارضه أميركا، فالسلاح النووي قضية كرامة وطنية لباكستان ويحقق لها توازن الرعب مع الهند الأكثر عددا والأقوى اقتصاديا وعسكريا.
والثابت الثالث لباكستان: هو وجود حكومة موالية لها في أفغانستان حتى لا يلعب أحد في فنائها الخلفي. وتعتبر هذا حقا طبيعيا لها. فلا يوجد عاقل يرى النيران تشتعل في بيت الجيران ولا يتدخل. وأميركا نفسها لم تسكت على لعب روسيا (الاتحاد السوفياتي) في فنائها الخلفي في أزمة الصواريخ الكوبية 1962، بل لا تسمح أميركا لأحد باللعب في أميركا الوسطى والجنوبية. وباكستان تعلم أن وجود حكومة غير موالية لها في أفغانستان معناه دخول الهند إليها، لتحيط بها الهند من شرقها وغربها (كماشة)، وقد حدث ذلك في ظل حكومة كرزاي أنشأت حين الهند - في وقت ما - قنصليات لها في مدن جنوب أفغانستان على حدودها مع باكستان، ومنها دعمت حركات تمرد انفصالية في إقليم بلوشستان بغرب باكستان ردا على دعم باكستان لمقاتلي كشمير ضد الهند. فوجود الهند في أفغانستان يجعل وجود باكستان كدولة مهدَّدا وفي مهب الريح. وإذا دخلت الهند مكانا تبعتها حليفتها إسرائيل. وإسرائيل موجودة الآن في كشمير الهندية، وهي تريد أن تضرب المنشآت النووية الباكستانية كما ضربت مثيلتها في العراق عام 1981. وفي الجملة فإن باكستان لن تقبل إلا بحكومة موالية لها في أفغانستان ولا يصلح لهذا الآن إلا طالبان، ويجب أن تدرك أميركا هذا وتفكر بعقلها لا بعضلاتها، ولا يُنتظر أن تتخلى باكستان عن طالبان، وتُعتبر (القاعدة) ورقة أخرى لدى باكستان لإزعاج أميركا. أما ما تقوم به باكستان من حملات على مناطق القبائل بين الحين والآخر فهو لترضية أميركا ولنزع فتيل غضبها ولإظهار التعاون معها في مكافحة الإرهاب. وقبل وصول أي حملة إلى منطقة الهدف ترسل تحذيرات للمستهدفين بوجوب سرعة إخلاء المكان عن طريق رجالها في القبائل. هذا بعض ما يتعلق بدعم باكستان لطالبان بالإيواء والتسليح والمعلومات كعامل في صالح طالبان في صراعها مع أميركا في أفغانستان.
* الحلقة السادسة: مفتاح الحل في أفغانستان هو في التفاوض المباشر مع طالبان