بلير يدير ظهره لأهالي الجنود البريطانيين.. ويخدع المتظاهرين مرتين

بدأ الجلسة مرتبكا كتلميذ مدرسة.. وانتهى أستاذا

جانب من المظاهرات التي نظمها بريطانيون، أمس، احتجاجا على قرار مشاركة بلادهم في الحرب ضد العراق (تصوير: حاتم عويضة)
TT

كانت الساعة تشير إلى التاسعة والدقيقة العشرين صباحا، والمقاعد التي تتجاوز الستين بقليل، في القاعة رقم واحد في مركز الملكة إليزابيث الثانية في لندن، كانت قد امتلأت. شاغلوها، كثير منهم من أهالي جنود قتلوا أو أصيبوا في العراق، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر. لم تكن القاعة قاعة محكمة، ولكنها بدت شبيهة بها إلى حد كبير؛ فالصمت الذي كانت تكسره بعض الهمسات بين الحين والآخر، كان صمت قاعة تترقب دخول المتهم وهيئة المحلفين، وتعليمات أحد المسؤولين التي تذكر الحضور بالتزام الهدوء أثناء الجلسة، كانت توحي بأن القاعة قاعة محكمة. ولم يسمح للحضور، ولا حتى للصحافيين الستة الذين تمكنوا من الدخول، وكانت «الشرق الأوسط» من بينهم، بإدخال أي شيء معهم باستثناء دفتر وقلم، ولكن الأحذية.. كان مسموحا بها.

خارج القاعة، كان هناك أيضا من ينتظر؛ مئات من المتظاهرين ضد الحرب بدأوا في التجمع منذ الساعة الثامنة صباحا، وكان صبرهم قد بدأ ينفد. «أين أنت بلاير (كاذب)» هكذا كانوا ينادون بلير، وينتظرون دخوله من المدخل الرئيسي للمركز، كما كان يفعل كل من استمعت إليه اللجنة منذ بدء جلساتها، ولكن بلير خدعهم.. مرتين؛ الأولى عندما وصل في السابعة والنصف صباحا، قبل أن تكبر التجمعات، والثانية عندما دخل من مدخل جانبي للمركز.

في داخل القاعة، لم يطل الانتظار كثيرا، ولم يتأخر موعد بدء الجلسة. دقت ساعة بيغ بن التي كانت أصداؤها تسمع في الداخل، ودخل أعضاء لجنة شيلكوت الخمسة، تتقدمهم المساعدة الإدارية، من باب الغرفة الرئيسي، الواحد تلو الآخر، ثم أخذوا مقاعدهم على طاولة شبه مستديرة، يواجهون الجمهور، ثم عاد الانتظار.

لحظات قليلة مرت، فتح بعدها باب جانبي لم يكن قد تنبه أحد لوجوده قبل برهة. العيون كلها شخصت نحو الباب، والصمت كان يخيم على المكان. أطل توني بلير، يمشي مشية سريعة، ورأسه شبه مطأطأ. تمتم: «صباح الخير»، من دون أن ينظر إلى أهالي الجنود البريطانيين. أخذ مقعده بسرعة، وأدار لهم ظهره، وكأن اللحظة الأصعب قد مرت. بدا متوترا وقلقا، يرتدي بدلة كحلية وربطة عنق حمراء. فتح واحدة من قناني الماء الأربع الموضوعة أمامه، وسكب بعضا من الماء في كوب. انتظر أن يطرق اللورد شيلكوت بمطرقته آمرا ببدء الجلسة. أما هم، فكانوا ينظرون إليه نظرات بعضها يحمل غضبا وبعضها الآخر حزنا وألما. ولكن شيلكوت بدل أن يعلن انطلاق الجلسة، افتتح بمقدمة ذكر فيها الحضور بأن القاعة ليست محكمة، وطلب منهم أن يسمحوا لبلير بأن يدافع عن نفسه من دون مقاطعة، وذكرهم بأنه تم انتقاؤهم من بين آلاف الطلبات، ولذلك ينتظر منهم تصرفا على هذا الأساس. كان بلير يجلس في مقعده مثل طالب ينظر إلى أساتذته، بانضباط وتأدب.

وانطلقت الجلسة مع السير رودريك، أحد أعضاء اللجنة، الذي افتتح بسؤال بدأ ولم ينته. وقد بدا بلير منزعجا قليلا من طول السؤال. وأخيرا، بعد 10 دقائق على دخوله، سُمح له بالحديث. لم يوجه تحية إلى أهالي الجنود الجالسين خلفه، ولم يشكر اللجنة على الفرصة التي سنحت له للدفاع عن قراراته، بدأ بالإجابة على الفور، وكان لا يزال يبدو عليه التوتر والقلق. لم يبد أحد من الحضور اعتراضه بصوت مرتفع، كانوا يستمعون، بعضهم مقطب الجبين، وآخرون يهزون رؤوسهم.

ربع ساعة مرت على انطلاق الجلسة، وبدأ بلير يشعر بارتياح أكبر. حركاته تغيرت، صار يؤشر بيديه وهو يتحدث بثقة أكبر، ينظر إلى أعضاء اللجنة في عيونهم وهو يروي لهم كيف غيرت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) كل شيء: «قتلوا 3000، ولكن لم كان باستطاعتهم أن يقتلوا 30 ألفا، لما ترددوا. هؤلاء الأشخاص سيستعلمون أسلحة كيميائية وبيولوجية لو كان باستطاعتهم، كان علينا أن نعيد تقييم المخاطر..». بدا وكأنه عاد إلى الحياة وهو يتحدث عن صدام حسين «الوحش»، كان توني بلير في هذه اللحظات أشبه برئيس الوزراء الذي قاد بريطانيا إلى حرب العراق. لم يكن الرجل القلق المتوتر الذي دخل القاعة في التاسعة والنصف صباحا، بدأ يستعيد السيطرة على الوضع رويدا رويدا، حتى أنه بدأ يشعر بثقة كافية لكي يطرح مواضيع من دون أن يسأله عنها أعضاء اللجنة. وفي لحظة معينة، بدت الأدوار وكأنها انقلبت. أصبح بلير هو الأستاذ، وأعضاء اللجنة هم التلاميذ، كان يقرأ نصوصا من أوراق أمامه، وأعضاء اللجنة يتابعونها على نسخ أمامهم، والسير جيلبرت، أحد أعضاء اللجنة، كان ينظر مبتسما ابتسامة الأطفال إلى تبادل الحديث بين بلير ورودريك.

بقي الحضور هادئين خلال الجلسة في معظم الفترة الصباحية، إلا مرة واحدة عندما كان بلير يبرر قوله في مقابلة صحافية قبل أشهر إنه كان سيدخل الحرب حتى لو لم يكن هناك خطر أسلحة الدمار الشامل. قال مبتسما مرتبكا: «لا يزال لدي الكثير الذي لا أذكره عندما أجري مقابلات»... وراح يشرح أنه لم يقصد ذلك، وأنه لا يزال متمسكا بأنه ذهب إلى الحرب لنزع سلاح صدام، وليس لتغيير النظام. ولكن كثيرين في الحضور لم يتمكنوا من كتمان انزعاجهم، وراحوا يعترضون بصوت عال.

انتهى الجزء الأول من جلسة الاستماع الصباحية، وخرج بلير من القاعة. لم تكن لجنة شيلكوت هيئة محلفين يوم أمس، فقد ذكرت في البداية أن الهدف هو استخلاص العبر، وليس إصدار أحكام، وأن توني بلير ليس مشتبها به جالسا في قفص الاتهام. يوم أمس كان بالنسبة لرئيس وزراء بريطانيا السابق الفرصة الأخيرة لتبرير قرار أنهى حياته السياسية، وكان بالنسبة لأهالي 179 جنديا بريطانيا فقدوا حياتهم في العراق، الأمل الأخير لفهم الأسباب التي خسروا لأجلها أبناءهم، ولكن حتى البداية لم تكن بداية جيدة، فالأهالي لم يصدقوا كيف دخل بلير من دون أن «يعبرهم»، ولا حتى يتوجه بكلمة إليهم.. وفي الخارج، كانت المظاهرات لا تزال مستمرة، والأصوات المطالبة بإحالة بلير إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي يتردد صداها في الداخل، في أذني بلير.