في الوقت الذي يصر فيه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، والمبعوث الرئاسي جورج ميتشل، على وجود فرصة لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، يتسم الموقف الإسرائيلي بجملة من التناقضات المثيرة للتساؤلات.
فرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يبارك هذه المفاوضات، ولكنه يضع أمامها جبلا من الشكوك والعقبات التي تبشر بإجهاضها قبل أن تبدأ، لدرجة جعلت الرئيس الفلسطيني، محمود عباس (أبو مازن)، يشكو أمام ميتشل: «إنهم (أي الإسرائيليين)، يحاولون تحريض شعبنا علينا وإظهارنا نتوجه إلى مفاوضات صورية».
فقبل أن تبدأ المحادثات، بادرت شرطة نتنياهو إلى تفجير الأوضاع في القدس باقتحام المسجد الأقصى المبارك وبحملة اعتقالات في ساعات الفجر بين صفوف الأطفال الفلسطينيين من جيل 9 – 16 سنة، والإعداد لافتتاح كنيس يهودي في القدس الشرقية، هذا فضلا عن المشروع الاستيطاني الجديد في مستوطنة قرب بيت لحم. وحتى في المجال السياسي، أعلن نتنياهو، أمس، أن المفاوضات إجرائية فحسب وأنه لن يكون مستعدا للتفاوض حول القضايا الجوهرية إلا إذا أصبحت المفاوضات مباشرة، وأنه يصر على الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. وكان مسؤول إسرائيلي رفيع جدا، قد أعلن قبل يومين أن هذه المفاوضات ما هي إلا غطاء للموضوع الإيراني.
ولم يقتصر التناقض في هذه التصريحات على موقف الإدارة الأميركية. بل بدا أنها تتناقض مع تصريحات وزير الدفاع، إيهود باراك، الذي قال إن هذه فرصة يجب عدم إضاعتها لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقال إن خطر إضاعة الفرصة لا يأتي فقط من إسرائيل، بل من الطرف الفلسطيني أيضا. ويمكن قراءة هذا التصريح أيضا بشكل معاكس، أي إن الخطر لا يأتي من السلطة الفلسطينية بل أيضا من إسرائيل. ومثله تكلم الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، الذي قال إن على الطرفين أن يتنازلا لمصلحة السلام. وكانت مصادر سياسية قد أكدت أنه على خلاف مع نتنياهو ويشعر بخيبة أمل بل بطعنة منه، حيث قام (بيريس) بحملة تسويق عالمية لصالح نتنياهو كقائد جديد تعلم من أخطاء الماضي وينوي تحقيق السلام.
وانضمت الصحافة الإسرائيلية إلى هذا النقاش، وأشارت بانتقادات لاذعة إلى أن نتنياهو لم يفعل شيئا لتفعيل عملية السلام. فكتب ألوف بن، المحرر السياسي في صحيفة «هآرتس»، أول من أمس، أن هناك عوائق عديدة تمنع نتنياهو من التقدم في هذه المسيرة، أولها عائق نتنياهو نفسه، فهو لا يجرؤ على اتخاذ خطوات شجاعة تدخله في صدام مع معسكره اليميني وحزبه الليكود. وهناك من ينتقد الإدارة الأميركية أيضا، «التي تراجعت عن ممارسة الضغوط على نتنياهو بسبب خوفها من انتخابات الكونغرس الأميركي في نهاية السنة»، كما قال المعلق السياسي للقناة الثانية المستقلة للتلفزيون الإسرائيلي، أمنون أبراموفتش.
وهناك من يرى أن نتنياهو يتحرك بالأساس في الموضوع الإيراني، ولكنه فشل في إقناع الولايات المتحدة بتشديد الإجراءات العقابية ضد إيران. ويحاول ربط الموضوعين: «عقوبات أشد على إيران مقابل التقدم في المسار التفاوضي. أو عقوبات غير فاعلة على إيران مقابل مفاوضات غير فاعلة مع الفلسطينيين»، كما يقول عكيفا إلدار في «هآرتس». ويضيف أن إسرائيل، منذ أن نجح رئيس حكومتها إيهود باراك في سنة 2000 في إقناع العالم بأنه لا يوجد شريك لها في عملية السلام في الطرف الفلسطيني، تتيح المجال اليوم للسؤال: «وهل يوجد شريك إسرائيلي للفلسطينيين في عملية السلام اليوم؟.. هل يوجد شريك في إسرائيل للعالم العربي في مبادرته التاريخية للسلام؟».
بيد أن هناك معلقين في إسرائيل يرون أن وراء سياسة التناقضات في الحكومة الإسرائيلية تقف المصاعب الموضوعية لنتنياهو: «ائتلافه الحكومي. فالرجل حتى لو أراد، وهذا مشكوك فيه حتى الآن، يواجه ائتلافا يمينيا مقاتلا ضد مبدأ الدولتين للشعبين. وهناك معارضة له حتى داخل الليكود. ولكن حزب كديما يحرج نتنياهو ويعلن استعداده للوقوف لجانبه، أكان ذلك من صفوف المعارضة في الكنيست أو من خلال الانضمام للائتلاف الحاكم بلا شروط، في حال طرحه مشروع سلام حقيقيا.
من هنا، فإن مشكلة نتنياهو الحقيقية أنه لم يتخذ قرارا جديا للتوجه إلى مفاوضات حقيقية. وهو لم يعد يشعر بضغوط دولية ولا أميركية عليه، تدفعه إلى إحداث انعطاف تاريخي في سياسته. وحسب أنه يستطيع الإفلات من التزامات السلام، طالما أن السلطة ترفض المفاوضات والشارع الفلسطيني ممزق بين حماس وفتح وغزة ورام الله. وطالما أن المجتمع الإسرائيلي يناصره. واليوم، مع استئناف الجهود الأميركية رغم المحاذير حولها، ومع قدوم السلطة للمفاوضات بدعم عربي ولفترة محددة وبداية تحرك الشارع الإسرائيلي، صحافة وجماهير، ضد سياسته وهو تحرك ما زال محدودا، ستتضح الصورة الحقيقية تجاه هذه الحكومة. وشهدنا مثل هذا السيناريو مع نتنياهو في الدورة السابقة لحكومته في سنة 1999. ففي حينه لم يقرأ نتنياهو ومساعدوه الخريطة جيدا، فتراكمت الأحداث من حوله داخليا وخارجيا، فسقط حكمه... فهل يقرأها اليوم جيدا؟..