«عرنوس».. حي تتقاطع فيه أهم أسواق دمشق وشوارعها

وراء تسميته قصة غريبة.. ويلتقي فيه القديم والجديد

TT

في مدن العالم العريقة، عموما، يمتزج القديم بالجديد ويتزاوج الماضي بالحاضر في أزقتها ودروبها وجاداتها وأسواقها. وهذا هو الحال في العاصمة السورية دمشق، أقدم عواصم العالم. ومن المناطق السكنية والتجارية التي عمرت في المنطقة الفاصلة بين «المدينة القديمة» - بحاراتها العتيقة كالقيمرية وساروجة والعمارة - والمناطق الحديثة التي درج الدمشقيون في القرن العشرين المنصرم على تسميتها بـ«حارات الأكابر»، قبل أن تتوسع التسمية لتشمل الضواحي الأحدث، تقوم منطقة عرنوس.

عرنوس، القابعة في المنطقة الفاصلة ما بين جزأي دمشق القديم داخل السور، الحديث خارجه، منطقة يطلق عليها البعض لقب الجادة أو الساحة أو الحارة. ولكن مهما كان اللقب تختزل عرنوس الكثير من القصص والحكايا الشعبية الشيقة. وفي طليعة القصص قصة حملها هذا الاسم الغريب بعض الشيء، ولعلّها أقرب ما يكون إلى أسطورة تداولها الناس في القرون الخمسة الماضية، وصارت تُحكى في المقاهي الشعبية على ألسنة «الحكواتية» كقصة أغرب من الخيال، وترويها الجدات للأحفاد في ليالي شتاء دمشق الباردة.

هذه المنطقة تحتل، في الواقع، موقعا استراتيجيا وسط العاصمة، حيث تنتهي أو تبدأ بها ومنها بعض أهم شوارع دمشق وأسواقها، ومنها «سوق الصالحية» الشهير و«سوق الحمراء» وحي المزرعة الذي ضم لوقت قريب مبنى رئاسة الحكومة السورية قبل أن ينتقل إلى ضاحية كفرسوسة الجديدة. ثم هناك جادات حي المهاجرين التي تلامس عرنوس بجادة الطلياني ومشفاها الإيطالي الشهير الذي تأسس قبل أكثر من ثمانين سنة، وكذلك شارع الملك عبد العزيز آل سعود والروضة وغيرها من مناطق سكنية وتجارية ولدت في أوائل القرن العشرين المنصرم. ولكن يمكن القول إنه لم يتبقّ من عرنوس، حاليا، سوى حديقة واسعة تتوضع بين سوقي الصالحية والحمراء ومجموعة من الأزقة والشوارع والأسواق الصغيرة المتفرعة عن الساحة التي تحمل الاسم. ويشعر زائر هذه الأسواق والأزقة بنكهة تراث عمارة النصف الأول من القرن المنصرم بمبانيه المميزة ومشربيات أبنيته التي لا يتجاوز عدد طبقاتها ثلاث طبقات فقط، وشرفاتها الهادئة، كما يشعر بهدوء المكان حيث يخف الازدحام في الأزقة ليزداد في الشارع الرئيسي حيث مراكز بعض المؤسسات الحكومية.

من ناحية ثانية، يشعر من يزور عرنوس، ولا سيما من زارها قبل عشر سنوات، بتحوّل ملحوظ حصل في نوعية الخدمات التي تقدمها محلاتها في ظل الانفتاح الاقتصادي الذي تشهده سورية منذ عدة سنوات. وربما سيستمع بتناول فنجان قهوة برازيلي في محل «كولومبوس» الذي تحول حديثا إلى مقهى صغير في زاوية جميلة من عرنوس تطل على شارعين حيويين متجهين إلى منطقتي الشهبندر والمزرعة وإلى شارع الباكستان العريق. وفي مكان مجاور سيلحظ الزائر وجود الكثير من الكافيتريات التي تحولت إلى مقاهي أرصفة بمشهد جميل كانت دمشق تفتقر إليه حتى أواخر القرن العشرين المنصرم. وحتما لن يشعر الزائر بالملل وهو يتجول في سوقها الرئيسية وأزقتها حيث سيرى في واجهات محلاتها الأنيقة الكثير من البضائع العصرية والتراثية معروضة بشكل جذاب في الواجهات.

أما عن حكاية اسم «عرنوس» فقد يكون خير من يرويها أحد أبناء المنطقة الفنان التشكيلي المخضرم عاصم زكريا. ويروي زكريا لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «إنها حكاية يمتزج فيها الحزن بالفرح، والعاطفة بالقوة، والرجولة بالشهامة، وتقول الحكاية أن ابنة أمير طرابلس (بشمال لبنان اليوم) الصليبي سقطت في فترة الحروب الصليبية أسيرة في أيدي رجال القائد العربي إسماعيل أبو السباع، وهو من أبناء منطقة الصالحية ومدفون فيها. وقد أحسن إسماعيل معاملتها وتزوّجها فعبّرت له عن وفائها، وعندما أعربت عن رغبتها في زيارة أهلها سمح لها بالسفر لمقابلتهم. غير أنهم ما إن التقوا بها حتى أخذوها معهم وعادوا بها إلى روما حيث أنجبت هناك طفلها من زوجها العربي إسماعيل وسمته (عرنوس). لكنها وهي في روما قصت لابنها عندما كبر حكايتها، وأخبرته عن هوية أبيه، وكيف عاشت معه حياة كريمة جميلة. ثم بعدما كبر عرنوس أعد للمشاركة في حملة صليبية جديدة على بلاد الشام، وجرت معركة انهزم فيها الجمع الصليبي الذي ضم الابن الشاب أمام قائد المعركة من العرب، الذي كان يومها قد غدا شيخا كبيرا، ولم يكن غير والده إسماعيل. وعندما وقع الشاب عرنوس في أسر إسماعيل تمكن الأخير من التعرّف عليه من أيقونة معلقة بصدره كان قد أهداها إسماعيل إلى زوجته، وعندها انهمرت دموع الأب وامتزجت مع دموع الابن الشاب الذي قرر من ساعتها الانضمام إلى أبيه وجيشه، وقاتل معه حتى توفي ودفن في دمشق، ومن ثم وتحوّل إلى وليّ تزور قبره الناس وأخذت المنطقة اسمها منه».

هذه الحكاية، الأشبه بالأسطورة، يؤكدها الكثير من المؤرخين ومنهم الدكتور قتيبة الشهابي الذي تحدث عنها ورصد تطور منطقة عرنوس عبر تاريخها وما ضمته من مبانٍ مهمة في القرن المنصرم. ويذكر الشهابي أن منطقة عرنوس بدأت تنمو منذ عام 1921، وتوسعت عمرانيا عام 1931 بالاتجاهين الشرقي والغربي، قبل أن يندلع فيها حريق كبير في أربعينات القرن المنصرم أتى على الكثير من البيوت، كما قضى على حياة الإطفائي يوسف قيسي الذي كان مصارعا مشهورا في ذلك الحين.

ومنذ تأسيس منطقة عرنوس اتخذت فيها قيادة الدرك الفرنسي أيام الانتداب الفرنسي مقرا لها في مبنى كبير بالجهة الشرقية من المنطقة. كذلك كان من مباني عرنوس الشهيرة مبنى زيوار باشا - وهو من أعيان دمشق - وكان المبنى دار سكن له شيده صاحبه عام 1903، إلا أنه توفي قبل أن يتمكن من أن يجهز ويصبح صالحا للسكن. وفي ما بعد حوّل المبنى إلى مدرسة طبية سميت «مدرسة الحياة». وفي أواخر عقد الخمسينات تحوّل إلى مدرسة ثانوية سميت «ثانوية جول جمال»، وما زالت التسمية موجودة رغم تحويل وزارة التربية المبنى حاليا بعد توسعته وتحديثه إلى مركز تعليمي وتدريبي للمدرسين السوريين.

ومن مباني عرنوس أيضا كانت هناك المدرسة الأميركية للإناث، ولكن الكثير من معالم المنطقة - كما يذكر المؤرخ الشهابي - تغيّر إثر هدم المباني القديمة وتنظيم شارع الملك العادل والشوارع الأخرى المحيطة بعرنوس، وتشييد عمارات حديثة لا تلتزم بطراز معين من طرز العمارة.