الأسواق في بريطانيا تستعد لفترة عدم استقرار.. مع اقتراب الانتخابات العامة

خبير اقتصادي لـ «الشرق الأوسط»: حكومة ائتلاف ستكون عاجزة عن اتخاذ قرارات لخفض الدين العام.. والساسة يتلهى بعضهم ببعض

رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون (تصوير: حاتم عويضة)
TT

أكثر ما يقلق الأسواق المالية هو الغموض، وفي بريطانيا تعيش هذه الأسواق منذ بداية العام تقريبا في غموض تام، تعكسه نتائج استطلاعات الرأي التي تتوقع أن البلاد مقبلة على برلمان معلق، وهو عندما يعجز أي حزب عن الفوز بأغلبية المقاعد في الانتخابات العامة التي ستجري على الأرجح في 6 مايو (أيار).

وقد حاول رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون أمس طمأنة البريطانيين إلى أن الاقتصاد يتعافى، ولكنه «لا يزال هشا». وحذر من أن «الإسراع بخفض الإنفاق لتخفيف عبء الدين العام»، وهي الخطة التي سيعتمدها المحافظون بزعامة دايفيد كاميرون في حال فوزهم، «سيشكل خطرا على الانتعاش ويجازف بإعادة انزلاق الاقتصاد إلى مستنقع الركود».

وبالفعل، يبدو أن الاقتصاد البريطاني لا يزال لم يتعافَ بعدُ من الأزمة التي ألمت به في أواخر عام 2008، على الرغم من أنه خرج من فترة الركود. وقد أظهرت تقديرات أعلن عنها المعهد الوطني للأبحاث الاجتماعية والاقتصادية أمس أن الناتج المحلي الإجمالي حقق نموا ضعيفا في الأشهر الثلاثة الممتدة حتى فبراير (شباط)، بلغ 0.3 في المائة، بعد نمو بلغ 0.6 في المائة في الأشهر الثلاثة الممتدة حتى يناير (كانون الثاني). إلا أن المعهد أشار إلى أن هذه النسبة على الرغم من انخفاضها فإنها جيدة مقارنة بالعام الماضي، حيث سجل الاقتصاد أضعف نقاطه في الفترة الممتدة بين أغسطس (آب) وأكتوبر (تشرين الأول).

وجاء ذلك في وقت أعلن فيه وزير الخزانة أليستر دارلينغ أمس أنه سيقدم ميزانية العام التي تنتظرها الأسواق في بريطانيا إلى البرلمان في 24 من الشهر الحالي. وتأمل الأسواق المالية أن يوضح الوزير خططه لخفض عجز الميزانية الذي يتجاوز حاليا 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف بحلول 2014. وقد حاول براون بالأمس طمأنة الأسواق قليلا، وتأكيد جديته في التعاطي مع تخفيض الدين العام، في حال أعيد انتخابه، إنما شدد على أن الأولوية هي لاستعادة النمو. فأعلن في كلمة ألقاها في مؤسسة «تومسون رويترز» أمس تجميد معاشات كبار موظفي الدولة، من بينهم الأطباء وكبار المديرين في القطاع العام، مؤكدا أن هذه الخطة ستوفر على الخزينة 3 مليارات جنيه إسترليني، علما بأن العجز يبلغ 178 مليار جنيه إسترليني.

ولكن كلما استمر هذا الجدل، الذي لن ينتهي إلى مع انتهاء الانتخابات، توترت الأسواق وانخفضت قيمة الجنيه الإسترليني مقابل الدولار الأميركي. فبالأمس تدنت قيمة الجنيه الإسترليني إلى أقل من 1.5 من قيمة الدولار الأميركي، وينذر بعض المراقبين بأنه قد يستمر في الغرق حتى يصل إلى 1.2 من قيمة الدولار الأميركي.

هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لما بعد الانتخابات: فوز حزب العمال بفترة حكم جديدة، أو فوز المحافظين، أو إنتاج برلمان معلق، وهو الأكثر ترجيحا، أي عندما لا يستطيع أي حزب من الفوز بأغلبية المقاعد فيضطر إلى تشكيل ائتلاف مع أحزاب أخرى، أو تشكيل حكومة أقلية لا يمكنها تمرير قرارات إلا بعد التشاور مع أحزاب أخرى وتأمين الأصوات الكافية في البرلمان.

«الأسواق لا تحب التردد (في اتخاذ القرارات)»، يقول الخبير الاقتصادي كريس فورنيس من «فوركاست» وهو يشرح لـ«الشرق الأوسط» سبب المخاوف من البرلمان المعلق. يقول إن «الأسواق تتصور أنه في هذه الحالة لن يتم اتخاذ قرارات محددة، والمشكلات المالية التي نواجهها اليوم لن تجد حلولا، لأن السياسيين سيكونون منشغلين بالمساومة في ما بينهم».

وفي هذه الحالة سيكون الحزب الثالث في بريطانيا، حزب الليبراليين الديمقراطيين، هو الحكم. وهو حزب وسطي إلا أن سياساته الاقتصادية تميل أكثر إلى سياسات حزب العمال. فزعيمه نيك كليغ يوافق براون على أن التسرع ببدء خفض الإنفاق والاقتطاع من تمويل الخدمات العامة سيكون له تأثير كارثي على الاقتصاد. إلا أن كليغ وحزبه لا يزالون يرسلون رسائل مختلطة للحزبين الرئيسيين حول مشاركتهما في ائتلاف حكومي. فتارة يؤكدون أنهم لن يشاركوا في حكومة ائتلاف إلى جانب أي من الحزبين، وتارة أخرى يقولون العكس. إلا أن هذه الفرصة هي فرصة ذهبية لحزب لم يستطع الوصول إلى السلطة قط، في ظل قانون انتخابي لا يعتمد التمثيل النسبي. وبالطبع فإن لعبة الرفض والقبول تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وفرض أكبر عدد من الشروط على الحزب الذي سيكون عليهم التحالف معه.

ولكن مارتن وايل، وهو خبير اقتصادي في المعهد الوطني للأبحاث الاجتماعية والاقتصادية، يرفض مبدأ أن البرلمان المعلق سيكون له انعكاسات سيئة على الاقتصاد. ويقول لـ«الشرق الأوسط» أن الأمر يعتمد على شكل الحكومة المقبلة، مضيفا أن هناك وضعين قد ينتجان عن برلمان معلق: «الأول تشكيل حكومة أقلية تريد الدعوة لانتخابات جديدة بشكل سريع جدا (أي خلال أشهر)، وهذا أمر مؤسف. أو حكومة أقلية تريد أن تبدأ بالعمل بشكل فعال».

إلا أن فورنيس يرى أن تشكيل ائتلاف يضم الليبراليين الديمقراطيين، ويحكم بسلاسة، «سيكون مفاجئا جدا... فهذه الأحزاب ببساطة لا يتفق بعضها مع بعض». ويقول: «بغض النظر عمن سيفوز، سنرى على الأرجح أن أي حكومة مقبلة ستجري تخفيضا في تمويل القطاعات العامة، وربما أيضا ترفع الضرائب، وهاتان الخطوتان كلتاهما لا تتمتعان بشعبية». ويضيف: «عندما تكون الأحزاب تتجادل علنا حول هذه القضايا كي تتوصل إلى قرار، وكل حزب يحاول أن يظهر بمظهر البطل أمام الرأي العام، فإن ذلك ببساطة لن ينجح... هكذا تنظر الأسواق إلى البرلمان المعلق، لدرجة أن القطاع المالي يفضل أن تبقى هذه الحكومة، حكومة حزب العمال، على أن يكون هناك برلمان معلق، وهذه مفاجأة كبيرة في الأسواق».

ومن المعروف أن الأسواق تفضل عموما حكم المحافظين الذي يطبقون الاقتصاد الحر إلى أبعد حد، إلا أنه حتى المحافظون لن يتمكنوا من تهدئة الأسواق على الفور، في حال تمكنوا من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان. ويقول فورنيس إن الأسواق ستكون متوترة بعض الشيء في البداية، ولكن ستهدأ بعد ذلك. ويضيف أن سبب التوتر قد يكون عدم الثقة بوزير الخزانة في حكومة الظل جورج أوزبورن (المحافظين)، «فهو شخص غير معروف بالنسبة للأسواق، وهناك البعض لا يزالون يشعرون بالتوتر لفكرة أنه سيكون وزير الخزانة، هم مرتاحون لفكرة كاميرون رئيس وزراء، ولكن أوزبورن هو المشكلة».

لا ينفي فورنيس أن المحافظين هم الحزب المفضل لدى القطاعات المالية، ولكنه يضيف أن الأسواق تشعر بالرضا بالذي تعرفه، «لذلك تفضل حتى أن تبقى هذه الحكومة الحالية، على أن يحصل برلمان معلق». وقد استطاع وزير الخزانة الحالي أليستر دارلينغ كسب ثقة الأسواق في الأزمة الأخيرة، على عكس أوزبورن. ويقول فورنيس إن الأسواق تفضل وزيرا «يمكنه أن يقف في وجه المشكلات، ودارلينغ يعطي هذا الانطباع».

برلمان معلق، أو غير معلق، يبدو أن بريطانيا تتجه نحو فترة عدم استقرار في أسواقها. وقد تطول أو تقصر هذه الفترة بحسب نتائج الانتخابات وما سيحصل بعدها، وحتى إن بريطانيا قد تشهد انتخابات عامة مرة ثانية خلال أشهر قليلة من الانتخابات الأولى في حال ولادة برلمان معلق، وحكومة عاجزة عن اتخاذ قرارات تطمئن الأسواق. وقد حصل ذلك في عام 1974 عندما أفرزت الانتخابات التي جرت في فبراير (شباط) برلمانا معلقا حقق فيه حزب العمال بزعامة هارولد ويلسون أكبر كتلة، من دون الأغلبية. ولم يدم إلا بضعة أشهر، إذ دُعي الناخبون في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه للاقتراع مرة جديدة، وفاز العمال بأغلبية ضئيلة لم تتعد ثلاثة أصوات.