نجحت الحكومة الجزائرية في كسر تماسك حركة إضراب بالمدارس بدأت واسعة وقوية ثم ضعفت مع الوقت، شنتها نقابات معلمي الأطوار الابتدائية والمتوسطة والثانوية. ففيما خشي بعضها تحت ضغط المضربين، من التهديد بالفصل من العمل وأوقف الإضراب، قرر آخرون الاستمرار في القبضة الحديدية للحصول على مزيد من المكاسب.
وفيما يمكن اعتباره واحدا من أخطر الإضرابات، رفع نصف مليون من المدرسين منذ أزيد من شهر، مطالب أهمها مراجعة نظام المنح والتعويضات والاستفادة من التقاعد بعد 28 سنة خدمة للرجال، بدل 32 سنة، مع احتساب سنتي الخدمة العسكرية، و25 سنة للنساء بدل 30 سنة، إضافة إلى مطالب أخرى تتمثل في تحسين خدمات الصحة التي يتلقاها المدرسون.
واتهم وزير التربية أبو بكر بن بوزيد، الذي يقود القطاع منذ أكثر من عشر سنوات «جهات سياسية» بالوقوف وراء الإضراب دون تسميتها، وقال للصحافة إنه «لن يسمح برهن مستقبل أطفالنا بسبب حسابات سياسية ضيقة»، وهدد برفع شكوى أمام القضاء بحجة أن الإضراب غير قانوني، كما دعا المضربين إلى العودة إلى النشاط ووعدهم بدارسة مطالبهم «بعيدا عن الضغط وبدون اعتماد سياسة لي الأذرع». لكن النقابات أعربت عن عدم ثقتها في تعهدات الوزير، وصممت على مواصلة الاحتجاجات التي لقيت استجابة واسعة على مستوى مدارس البلاد، ومع الوقت بدأ الحديث عن «شبح سنة بيضاء» رفض الوزير مجرد التلميح لها وقال لمساعديه بالوزارة، حسب مصدر تحدث لـ«الشرق الأوسط»: «سأستقيل من منصبي لو فشلت في قهر هذه النقابات».
وبعد ثلاثة أسابيع من الإضراب، أعلنت الحكومة عن دخول نظام منح وعلاوات جديد خاص بعمال التربية حيز التنفيذ بداية من مارس (آذار) الحالي. ويتضمن رفع علاوة «الأداء التربوي» والأجر القاعدي وزيادة في بعض التعويضات. وقال بن بوزيد إن الزيادات تتراوح بين 29 و33%، واعتبرها غير مسبوقة ورفض التشكيك في وعوده. غير أن الطرف الآخر أعلن عدم اقتناعه بالزيادات على أساس أنها بعيدة عما تتضمنه لائحة المطالب، وأن الوزير «يمارس المناورة والتسويف بغرض كسر ديناميكية الإضراب»، على حد تعبير مزيان مريان، رئيس نقابة التعليم بالمدارس الثانوية. وقال عضو من النقابة نفسها يشتغل بثانوية باش جراح بالعاصمة لـ«الشرق الأوسط»: «بحكم تجربتنا أصبحنا لا نثق في وعود الحكومة، فقد نجحوا عدة مرات خلال السنوات الماضية في وقف الإضراب بإيهامنا أن مطالبنا ستتحقق في غضون وقت قصير، ولكن لم ينفذ شيء في الميدان. والرأي العام يشهد اليوم أن الحكومة لا تعرف إلا لغة الوعيد واستعمال القضاء وتطويعه لوقف الإضرابات بواسطة أحكام تصدر تحت الطلب»، في إشارة إلى القرار الاستعجالي الذي أصدرته محكمة الجزائر العاصمة بوقف الإضراب بذريعة أنه غير قانوني. وجاء الحكم بناء على شكوى من وزارة التربية. وبهذه الطريقة نجح بن بوزيد، 10 مرات على الأقل، في وقف إضرابات قطاع التعليم.
ورفضت النقابات تنفيذ قرار المحكمة، وأعلنت مواصلة حركة الاحتجاج. واهتدت الوزارة إلى طريقة أخرى في محاولة لوقف الإضراب، فقد عقدت اجتماعات مع جمعيات آباء التلاميذ ودعتهم إلى الضغط على المضربين، وقال لهم أمين عام الوزارة إن «مستقبل أولادكم بين أيديكم وأنتم من تحددون مصيرهم». واستطاعت الوزارة إلى حد ما ضم اتحادات آباء التلاميذ إلى موقفها، وأصبحت النقابات تصارع على جبهتين.
وبعد أن وصل الانسداد بين الطرفين ذروته، أصدرت الوزارة تعليمات إلى مديري المدارس تأمرهم بتحضير ملفات طالبي التوظيف لاستخلافهم بالمضربين، فضلا عن اتخاذ تدابير عقابية أخرى بينها الاقتطاع من أجور المضربين، وهددت بشطبهم من قوائم التوظيف العمومي.
وحول التهديد بالفصل من العمل قالت مدرسة بحي الدرارية بأعالي العاصمة «من غير المعقول أن تفصل الحكومة نصف مليون عامل من مناصبهم لسبب بسيط هو أن هؤلاء البطالين الجدد سيصبحون عبئا عليها، ليس وحدهم فقط وإنما آلاف الأشخاص الذين يعيلهم المضربون». لكن ليس كل المضربين يظهرون استماتة في مواجهة وزارة التربية، من بينهم مدرسة في ثانوية جمال الدين الأفغاني بالعاصمة، تقول «لقد عانيت من البطالة سنوات طويلة، وتم توظيفي منذ سنة فقط. صحيح أن مطالبنا مشروعة لكنني لست مستعدة لمواجهة شبح البطالة مرة أخرى، ولا أقوى صراحة على الاستمرار في الإضراب أكثر من هذا الحد».
ومثل هذه المدرسة كثيرون، إذ عادوا إلى أقسام الدراسة بعد قرابة شهر من الإضراب. ونشبت ملاسنات حادة بين المتمسكين بالإضراب والذين أوقفوه، واتهم «الصقور»، «الحمائم»، كما سماهم الإضراب، بـ«الخيانة». وذكر أحد النقابيين لصحافي «لن تقوم لنا قائمة في المستقبل لو ركعنا تحت تهديدات الوزارة، وفي المقابل سيحسب لنا بن بوزيد ألف حساب لو هددناه بالإضراب مرة أخرى في حال لم يف بوعوده هذه المرة». ويعكس الإضراب الذي لا يزال متواصلا في بعض «جيوب المقاومة»، تراكم المشكلات في قطاع التربية منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ويرى البعض أن مشروع «إصلاح منظومة التربية» الذي أعده الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في بداية حكمه، سنة 1999، أهمل العنصر البشري وركز بشكل كبير على تطوير مناهج التعليم وبناء المؤسسات التعليمية. أما أهم ما يعبر عنه الإضراب فهو تدهور القدرة المعيشية لفئات واسعة من الشعب الجزائري، فقد أصبح هاجس المدرس توفير الحاجيات الأساسية بدل تطوير قدرات التلميذ.