الأعمال الكاملة لـ«ايف سان لوران» تعرض في القصر الباريسي الصغير

حكاية المصمم الذي أحب المرأة حد تغليف أنوثتها بسروال الرجل

بعض النماذج التي لم تعرض من قبل ولم تدخل في عروض الأزياء الحافلة
TT

يستقبل «القصر الصغير» في باريس، اعتبارا من الآن وحتى أواخر أغسطس (آب) المقبل معرضا استعاديا شاملا لتراث مصمم الأزياء الفرنسي الراحل إيف سان لوران. ويترافق المعرض مع نشر كتاب مصور يجمع إبداعاته كافة. لكن هذا التكريم لن يمر مرور الكرام، بسبب صدور سيرة «غير مرخصة» له، تسلط الضوء على جوانب سلبية في شخصيته، كطبعه المفرط في العصبية، وإدمانه المهدئات والمخدرات، وميوله المثلية.

في القصر الصغير، سيكون من حظ سان لوران أن يحصل على ما لم ينله مصمم أزياء من قبل، خصوصا أن عبقري الموضة الباريسية، الذي رحل في الأول من يونيو (حزيران) 2008، ترك وراءه صديقه الحميم وتوأم روحه، رجل الأعمال بيير بيرجيه. ومنذ أن فرق الموت بينهما وهذا الأخير لا يدخر جهدا للحفاظ على ذكرى صاحبه، وبذل الأموال الطائلة في سيبل إبقائها متألقة، وكأنه يؤيد للأحرف الثلاثة الأولى من اسم سان لوران، التي تحولت إلى علامة تجارية شهيرة وراقية، أن تبقى حاضرة في أذهان الناس والأجيال القادمة. وهكذا قدم بيرجيه للمعرض 307 بدلة أصلية من تصميم صديق عمره، كان قد حفظها ضمن مقتنيات مؤسسته الثقافية التي تحمل اسميهما، وبدأ جمعها منذ عام 1958، أي منذ أن كان سان لوران في بداياته، مصمما مبتدئا في دار المصمم الكبير كريستيان ديور. وبالإضافة إلى هذه الفساتين والتايورات وثياب السهرة، عرف عن سان لوران هوسه بالأرشيف، حيث إنه اعتبارا من ذيوع صيته، لم يكن يرمي أي ورقة رسم عليها خطا، كأنه كان يخطط مسبقا لمتحف للموضة سيرى النور ذات يوم، وسيحمل اسمه.

هذا ما تكشفه فلورنس مولر، المنسقة العامة لمعرض القصر الصغير، وتضيف أن بعض النماذج لم يعرض من قبل، ولم يدخل في عروض الأزياء التي قدمها سان لوران طوال مسيرته الحافلة. وإلى جانب الثياب، تتاح للزوار رؤية الصور والأفلام الوثائقية التي صورت زمن انطلاق العلامة التجارية «سان لوران ريف غوش» أو «الضفة اليسرى»، نسبة إلى الموقع الجديد للدار على الضفة اليسرى لنهر السين، في حي «سان جيرمان»، موئل الحركة الثقافية الباريسية، بخلاف كبريات دور الأزياء التي رابطت في الضفة اليمنى للنهر، غير بعيد عن جادة «الشانزليزيه». ومن أكثر الصور إثارة للاهتمام تلك المجموعة التي التقطها جانلو سييف بمناسبة ظهور أول عطر رجالي يحمل علامة سان لوران، ويبدو المصمم في إحداها. كما تعرض صور الحملة الإعلانية لصيف 1971، التي رافقت نزول مجموعة الثياب المستوحاة من ثياب النساء في أربعينات القرن الماضي. وهو ما دشن موضة «الريترو»، أو العودة للماضي. ومن رموز تلك الموضة بدلة «السموكينغ» الخاصة بالسيدات، والمستعارة من أناقة السادة. وقد خصص جدار كامل لنماذج مختلفة من هذه البدلة. كما خصصت صالة حملت اسم نجمة السينما الفرنسية، كاترين دينوف، إحدى أبرز زبونات سان لوران، وفيها قدمت الممثلة 10 فساتين للسهرة من خزانتها الخاصة تحمل توقيعه، إسهاما منها في المعرض.

يخرج زائر المغرض بانطباع يؤكد أن هذا الفنان كان عاشقا كبيرا للنساء، على الرغم ميوله. ويقول شريك مسيرته، بيير بيرجيه، الذي رافقه نصف قرن من الزمان، إن سان لوران أحب المرأة إلى درجة أنه منحها النفوذ، وكان يرسم ثيابا تناسب السيدات النشيطات والعاملات وصاحبات القرار، وهي ثياب تتيح لها تحقيق أنوثتها وتحمل تبعات جنسها، وبهذا خرج المصمم من دائرة الخياطة الجمالية، ليكون لاعبا في الميدان الاجتماعي، ومحركا للقيم والنزعات المستحدثة،، شأنه شأن رائدة سابقة في عالم «تثوير الموضة»، هي كوكو شانيل.

وكعادة الناشرين في مواكبة المعارض الكبرى، صدر عن مؤسسة «بيير بيرجيه» دليل ضخم يضم «الأعمال الكاملة لسان لوران»، من 1962 إلى 2002. والدليل أو الكتالوغ، الذي طبعت منه 500 نسخة فحسب، يحتوي على 1283 صورة للبدلات والفساتين، كل منها مرفقة بنموذج من قماشة الفستان، واسم المصنع الذي أنتجها، والعارضة التي ارتدت الزي. ويؤكد بيير بيرجيه أن أحدا لم يطلع من قبل على هذه الصور، التي تم حفظها من التهتك والبلى، وفق أحدث الشروط العلمية، وبالأسلوب ذاته حفظت الفساتين القديمة للمصمم. ولم يكتف بيرجيه بهذا الدليل الشامل بل نشر، أيضا، الكتاب الذي عكف على تأليفه منذ اليوم الذي فقد فيه رفيق دربه، قبل سنتين، بعنوان «رسائل إلى إيف»، من منشورات «غاليمار».

هل جاء هذا الكتاب في سياق الرد على التقولات التي رافقت مسيرة الرجلين وحاولت سبر خفايا علاقتهما التي كانت مزيجا من الشراكة العاطفية والتجارية؟ لعل ما يدفع إلى هذا التصور الغضب الذي قابل به بيرجيه صدور سيرة غير مرخصة لسان لوران، قبل أسابيع قلائل، بقلم الصحافية ماري دومينيك لولييفر. وكشفت المؤلفة أن بيرجيه رفض أن يتعاون معها، كما حاول أصدقاء آخرون لسان لوران إقناعها بعدم إصدار الكتاب، الذي تزيل فيه القناع عما تزعم أنه الوجه الحقيقي للمصمم، الذي عاش مدللا مثل أمير صغير، يأمر فيطاع. ومما لا شك فيه أن لولييفر حاولت أن تشتغل على الطريقة الأميركية في كتب السيرة التي توصف بأنها «غير مرخصة»، أي لا تكتفي بتسجيل المحاسن، وتذهب إلى حد النبش في المثالب. وسبق للمؤلفة أن نشرت سيرتين من هذا النوع، واحدة للروائية فرانسواز ساغان، والثانية للمغني والملحن سيرج غينزبور. وفي سبيل جمع مادة كتابها عن سان لوران، استجوبت العشرات من رفاقه ومساعديه وعارضاته وخياطاته. لكن التحدي الأكبر الذي واجهته المؤلفة، هو وضع كتاب عن المصمم الراحل من دون الاستفادة من خزين المعلومات التي يملكها بيير بيرجيه، الصديق الذي وضع ثروته تحت تصرف موهبة سان لوران، وكان نقيضه في الطباع، ويشبهه في هوس اقتناء الأعمال الفنية النادرة والأثاث الجميل. وهي العلاقة التي وصفتها لولييفر بأنها مثل «الأنامل الذهبية في القبضة الحديدية».

ترسم السيرة لسان لوران صورة الرجل القلق، سريع الغضب، مدمن الكحول والمنشطات والمخدرات، الذي يفقد السيطرة على نفسه، فيرمي العاملين معه بأي شيء تقع عليه يده. لقد كان مفرطا في كل شيء، بحيث خاف عليه أصدقاؤه من تدميره لذاته. وكانت تلك التصرفات كفيلة بتدمير الشركة التي تحمل اسمه، لذلك راح مع شريكه يوقعان العقود في خارج فرنسا، وفي اليابان بالتحديد، لمنح حقوق استخدام علامة سان لوران في مختلف أنواع البضائع، وجلبت تلك الترخيصات أمولا طائلة. ولما افتتح الشريكان فرعا لدار أزيائهما في طوكيو، تهافتت اليابانيات الثريات عليها، بحيث إن الصحافة كتبت أن المصمم الفرنسي الموهوب دفع السيدات اللواتي لم تلبسن في حياتهن غير الزي الوطني، «الكيمونو»، إلى ارتداء التنورة الأوروبية والسروال النسائي.

وطبعا، تبرر المؤلفة ميلها إلى الكشف الفضائحي بأن سان لوران كان رمزا لعصر فرنسي كامل، ولذلك لا بد من إلقاء الضوء الكاشف عليه لمعرفة ما كان عليه العصر، أو المرحلة التي كانت تضج بالحركة والصرعات الفنية، وجموح التجريب والابتكار.