الباعة المتجولون عادوا إلى شوارع دمشق .. بالشاحنات الصغيرة

شكلوا في السنوات الأخيرة ظاهرة أثارت استياء أصحاب المحلات

«شاحنة - دكان» في أحد شوارع دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

ما زالت في ذاكرة المطبوعات والمسلسلات التلفزيونية وكبار السن مناظر الباعة الجائلين، على عربات تجرها الدواب، يسعون وراء رزقهم في القرى والأرياف السورية حتى منتصف القرن العشرين. يومذاك، لم تكن ثمة حركة تجارية نشطة في هذه القرى. وكان الباعة المتجولون يحملون على عرباتهم بضائع من مختلف الأنواع، وبالأخص، تلك التي تحتاجها المرأة الريفية كأدوات الزينة والعطور والألبسة وغيرها، ويتجهون بها إلى الأرياف لبيعها هناك. ولكن اليوم، على الرغم من «انقراض» العربات التجارية المتجولة التي تجرها الدواب في أرياف سورية بشكلها التقليدي، فإن فكرة «السوق الصغيرة المتجولة» عادت للظهور خلال السنوات العشر الأخيرة، وإن بحالة مختلفة تماما عن «أيام زمان». ففي ظل انتشار الشاحنات الصغيرة الحجم والكبيرة، ورخص أثمانها نسبيا، بعدما سمحت الحكومة باستيراد جميع أنواعها قبل بضع سنوات، بادر كثير من الدمشقيين إلى شراء شاحنات صغيرة وتحويلها إلى دكاكين نقّالة أحيانا، وثابتة في بعض الأحيان. وما عاد الأمر يقتصر على التنقل للبيع في الأرياف، بل صار أصحاب هذه الشاحنات يحملون بضائعهم فيها إلى داخل الأسواق والحارات الدمشقية الشعبية، وحتى الراقية منها. وصاروا يضعون أسماء لها مع أرقام هواتفهم أسوة بالمحلات الثابتة معتمدين في تجارتهم هذه على عدد من المعطيات التي يمكنهم بفضلها تحقيق أرباح مقبولة.

غير أن هناك فوارق بين أفراد هذا الجيل الجديد من التجار وأسلافهم من الباعة المتجولين على عربات الجر في الأرياف. ففي حين كان الباعة المتجولون في الماضي يبيعون - تقريبا - كل شيء على عرباتهم، وأحيانا على ظهور دوابهم، فإن تجار الجيل الجديد من أصحاب الشاحنات الصغيرة فضلوا «التخصص»، والاكتفاء بنوع واحد من البضاعة.. حسب مواسم السنة وفصولها. وبالتالي، يشاهد بعض هؤلاء وهم يعرضون في صناديق شاحناتهم السجاد والموكيت ودفايات المازوت، مثلا، في بدايات فصل الخريف والشتاء، وقد عرضوها بشكل جميل لجذب انتباه الناس إليها. والبعض الآخر تخصص في بيع المواد الغذائية، وخاصة، المعلبات والمأكولات التي لا تفسد بمرور الوقت. وثمة، من يأتي منهم من القرى القريبة من دمشق، ويعرض في شاحنته الخضار والفاكهة التي يشتريها من جيرانه مزارعي القرى، أو من أرضه نفسها، ويبيعها للمستهلكين من دون وسيط. هذه الظاهرة تثير ضيقا واستياء عند أصحاب المحلات، ومنهم أصحاب محلات الخضار في منطقة القصاع الراقية بدمشق. أحد هؤلاء، عرفنا بنفسه باسم أبو مهند، بدا ساخطا على هؤلاء الباعة المتجولين من أصحاب الشاحنات الذين يؤثّرون سلبا على أعمال أصحاب المحلات الثابتة وحركة البيع لديهم، وقال: «يا أخي هذه ظاهرة غير جيدة، فهؤلاء الباعة يبيعون من شاحناتهم بأسعار أرخص قليلا من أسعارنا، لكنهم لا يدفعون ضرائب للمالية ولا رسوما للبلدية وللمحافظة كما نفعل نحن، وليس هناك نفقات إضافية عليها من خلال الوسطاء في سوق الهال حيث نشتري نحن الخضار من بائعي الجملة هناك وندفع عليها «السمسرة» (أجرة الوسيط). وحتى الشاحنات التي يستخدمونها في تجارتهم ليست مرخصة لمثل هذه التجارة، بل هي لنقل البضائع وتوصيلها. ثم إن حتى سعر الواحدة منها لا يتجاوز عُشر قيمة أي محل في أي سوق دمشقية. لذلك يربح هؤلاء من تجارتهم حتى لو باعوا بضاعتهم بسعر متدن». ويؤكد أبو حسام عمار حسون، وهو بائع أدوات كهربائية وهواتف وأجهزة إلكترونية، صحة ما قاله جاره أبو مهند من التأثير السلبي لهؤلاء الباعة على تجارة المحلات العادية. ويضيف أن «الناس يظنون أننا نربح كثيرا في القطعة التي نبيعها، وذلك عندما يقارنون أسعارنا بأسعار هؤلاء الباعة. لكنهم لا يعرفون أننا ندفع ضرائب ورسوما وتكاليف كثيرة من أجور للعمال لدينا ونفقات المحلات من كهرباء ومياه وديكورات وغيرها. والشيء المثير للاستهجان كما يقول أبو حسام: «إن الباعة المتجولين من أصحاب الشاحنات لا تهمهم جودة البضائع التي يعرضونها أمام المشترين. والبعض منهم، وهذه حالات كثيرة شاهدناها، يبيعون منتجات منتهية الصلاحية أو ذات موديلات باطلة أو لا تعمل؛ مثل أجهزة الهاتف والشواحن الكهربائية والتلفزيونات والمسجلات، وكثير من المواطنين اشتروا منهم واكتشفوا بعد ذهابهم إلى منازلهم وتشغيلها أنها لا تعمل، لكنهم عندما عادوا ليراجعوا أصحاب هذه الشاحنات لم يجدوهم لأنهم غير ثابتين في مكان محدد». ولكن إذا كان أبو مهند وأبو حسام منزعجين من الشاحنات المتجولة لأن أصحابها يزاحمونهم في رزقهم، فإن بعض أصحاب المحلات في أسواق دمشقية أخرى لا يرون فيهم ظاهرة مزعجة، بل يسمحون لهم بالتوقف أمام محلاتهم ويساعدونهم، بل ويقدمون بعض الخدمات لهم. وهناك من أصحاب المحلات من يرضى بوجود هؤلاء إلا أنهم يشترطون عليهم بيع بضاعتهم بنفس أسعار المحلات. وفي سوق حي الشيخ محيي الدين، الذي يعد من أكثر أحياء دمشق التاريخية اكتظاظا بالمشترين، مقيمين وعابرين، سياحا وزوارا، وأمام أحد محلاته المتخصصة في بيع المنتجات الغذائية، وقفت شاحنة صغيرة بمنظرها الفريد وقد امتلأ صندوقها الخلفي بمئات من عبوات العطور محلية الصنع. وفي داخلها جهاز صغير ضاغط عبأ الزجاجات منه كما يفعل أصحاب محلات بيع العطور الثابتين في دكاكينهم. ولزيادة التجارة وتنويعها عرض صاحبها أيضا السبح بمختلف أنواعها. وما يلفت النظر أن صاحب الشاحنة - أو دكان العطور - ركنها بجانب الرصيف. وعندما سألت صاحب المحل القريب عن صاحب الشاحنة أجاب بأنه «ذهب لقضاء حاجة شخصية وسيعود بعد ربع ساعة»، وعرض عليّ أي خدمة لأنه موكّل من قبل صاحب الشاحنة ببيع العطور وهو يعرف أسعارها. في سوق شعبية دمشقية أخرى قرب جسر الثورة توقف عدد من الشاحنات الصغيرة المتجولة وبداخلها كل ما يخطر على بال الزبون من بضائع غذائية واستهلاكية. وعندما اقتربنا من إحداها لنصورها مع صاحبها، فاجأنا بأنه أغلقها فورا بستار معدني مفصّل خصيصا لذلك، وامتنع عن التحدث معنا. بيد أن صاحب شاحنة أخرى، هو أبو رزوق تحدث فقال: «يا أخي نريد أن نعمل ونشتغل ونحقق دخلا من عمل شريف، فما المانع من أن نستثمر هذه الشاحنات في عمل تجاري بسيط؟ المهم ألا نغش في بضاعتنا. أنا أبيع المكسرات والموالح والمجففات بالجودة نفسها التي تباع في المحلات، ولكن بسعر أقل. وأتجول في الحارات الشعبية كذلك، ويشتري البعض مني لأنني أوصل البضاعة إلى حارة الزبائن، وبالتالي، أريحهم من الذهاب إلى الأسواق لشراء هذه المواد».