مدينة المكناسي التونسية.. مهد تربية الجواد العربي الأصيل

يشرب حليب الماعز عند فطام المهر.. فطامه المخلوط بزيت الزيتون قبل دخوله ميادين السباق

لا تزال الفروسية تقليدا شعبيا حاضرا في المناسبات التونسية («الشرق الأوسط»)
TT

المكناسي مدينة صغيرة تقع في الوسط البلاد، وتتبع إداريا ولاية (محافظة) سيدي بوزيد. مناخها ملائم لتربية الخيول العربية الأصيلة، ولأن هذا الغرام تطور مع الأيام ليصبح شغفا وولها بالجواد العربي، فقد تطورت تلك الحرفة البسيطة لتفرض على السلطة المحلية بعث مهرجان دولي يعرف بميزات الجواد العربي الأصيل التي لا تضاهى انعقد في دورة جديدة أيام 26 و27 و28 مارس (آذار) الحالي.

الناصر القاسمي، مدير المهرجان الدولي للجواد العربي الأصيل بالمكناسي في دورته الثلاثين، قال إن المهرجان ركز على موضوع «الجواد لدى الشباب». وأضاف أن الجواد العربي جاء مع زحف بني هلال على تونس، إلا أنه كاد يختفي مع نهاية القرن الـ19، ولم تكن الأفراس موثقة بالكامل في تسلسل عائلي معروف في ميدان تربية الخيل، إلى أن أعاد الفرنسي لوفيس سنة 1911 تربية الجواد العربي الأصيل إلى مدينة المكناسي، وجلب لأجل ذلك الجواد العربي من سورية، وتكاثرت سلالته، ووصل عدد الخيول العربية الأصيلة التي يربيها إلى حدود 400 حصان، وكان يقيم لذلك حفلا سنويا لسباق الخيل كان المعمرون الفرنسيون يحضرونه بكثافة. وأقام لوفيس بالمدينة منذ سنة 1913 أول إسطبل لتربية الجواد العربي الأصيل وبهذا أصبحت مسالة تربية الخيول العربية الأصيلة ميزة من ميزات المكناسي.

وقال القاسمي إن المعمر الفرنسي كان بإمكانه أن يجلب الخيول الإنجليزية إلى المنطقة، لكنه كان مقتنعا تمام الاقتناع بأن الجواد العربي هو الملائم للمنطقة، خاصة من حيث المناخ الجاف الذي لا توجد به رطوبة البتة، كما أن الغطاء النباتي المتكون في معظمه من النباتات الطبية يسهم بدوره في جعل المنطقة مميزة بتربية الخيول العربية الأصيلة.

المراجع التاريخية تفيد في هذا الباب بأن إبراهيم الثاني إبان الدولة الأغلبية التي قامت في تونس، قد تزود من منطقة المكناسي بقرابة 800 جواد.

في المكناسي أمهات الخيل التي يفتخر بها أهالي المدينة، ويحمل كل مرب لتلك الخيول أسماء تحفر بذاكرته، أسماء على غرار «زعلة» و«كريمة» و«إغاثة» و«حميدة».. وعن تلك الأفراس تفرعت أعداد كبيرة من الخيول بمنطقة المكناسي من بينها «قبلة» و«عناني» و«وقار» و«ودعة» و«عكرمي» و«وهرة».

رضا الغابري (مربي خيول عربية أصيلة من المكناسي) أكد في حوار مع «الشرق الأوسط» أن أباه هو الذي أدخله عالم الخيل، فقد اشترى أول فرس عربية أصيلة سنة 1958، وكان ثمنها آنذاك 55 دينارا، وأقام احتفالا بهذه المناسبة ووليمة دعا لها كل أحبابه، وهي عادة واصلتها العائلة كلما اشترت حصانا أو فرسا عربية جديدة. ويلاحظ الغابري أن اسم أول فرس اقتنتها العائلة كان «نويرة»، ثم جاءت بعدها الفرس «فجلة»، ومنذ ذلك التاريخ تواصلت هذه الهواية الممتعة في صلب العائلة.

تلك العناية يرى محدثنا أنها تبدأ مع الفرس الأم التي تتلقى تغذية خاصة وتمارس رياضة المشي لتسهيل عملية الولادة، هذا إلى جانب مداواة الفرس ضد الديدان الداخلية التي تعوق نمو المهر. وأصبح لأهالي المكناسي من التجربة والدراية ما يجعلهم يراقبون الفرس ويساعدونها على ولادة جواد عربي أصيل يُدرَك جماله الأبدي من خلال شكله اللافت للانتباه.

يقول الغابري إن فترة الفطام عسيرة للغاية، وغالبا ما يتم تعويض حليب الأم بحليب الماعز لقلة الدهون في تركيبته، ويمكن كذلك اللجوء إلى حليب الإبل. وتتم تغذية المهر خلال الأشهر الستة التي تلي الفطام بالعلف المختلط بزيت الزيتون، ويعطى المهر قرابة الكيلوغرام في اليوم الواحد. ويسعى مربي الخيل إلى تمتين العلاقة مع الجواد حتى يتقبل لاحقا التدريب بسهولة، وتكون هناك أسس للعلاقة بين الجواد وراكبه، فهو مطالب بأن يحنو عليه ويربت على ظهره ويمسح على جلده حتى تتكون ألفة حقيقية بين الطرفين. ويصنف الغابري الحصان العربي الأصيل بأنه حصان قنوع يكفيه القليل من المئونة ليكون في صحة جيدة، ويتناول الجواد العربي الأصيل بالضرورة الشعير والعلف وذلك بحساب مرتين في اليوم، ويضاف لذلك الحليب وبعض المقويات المشروعة عند دخول ميدان السياق.. ويمكن للجواد أن يعطي نتائج إيجابية في السباق لمدة ست سنوات على الأقل، أما العمر الافتراضي للجواد العربي الأصيل فهو قد يصل إلى حدود 30 سنة.

وقال الغابري إنه فاز بالجائزة الكبرى لرئيس الدولة سنة 2005 بجواد عربي أصيل اسمه «عرابي»، وهو الذي تم تصديره إلى فرنسا مؤخرا للحصول على خيول عربية أصيلة تتم تربيتها في فرنسا.. وانتقد بالمناسبة التوجه الجديد نحو استيراد خيول من البلدان الغربية إلى تونس، وهي على حد قوله فاقدة للشكل المعترف به عالميا للجواد العربي، وحجتهم في ذلك تطوير الجواد العربي التونسي الأصيل وتجنب اختلاط الدماء.. والمفارقة كما ذكر الغابري أن تونسيين يستوردون فحولا غربية والفرنسيون يشترون خيولا من تونس لإيمانهم بمميزات الجواد العربي في تونس.

ويعرب الغابري عن تعجبه من إقبال بعض مربي الخيول على تجويد الأفراس بالجواد الغربي بمبلغ 50 ألف دينار، ولا يعيرون الكثير من الاهتمام إلى الفرس العربية التي لا تزيد تكاليف عملية تجويدها في أقصى الحالات على 1200 تونسي.

وقال الفرنسي باتريك نافارو، الذي قضى 30 سنة في ميادين الخيل، واقتنى مؤخرا الجواد «عرابي» مناصفة مع مالكه، واحتضنه في الإسطبلات الفرنسية حفاظا على سلالته، إن كل سلالات الخيل موجودة في فرنسا، إلا أن الخصال النفسية للجواد العربي الأصيل لا يمكن أن تضاهى قائلا «لقد وقعنا في حب هذا الجواد، ولا يمكن للعاشق أن يبوح بسبب واحد لعشقه».

وإذا عدنا إلى المكناسي نشير إلى كونها منطقة منبسطة تحيط بها الجبال من كل ناحية، وهي ذات مناخ جاف وخالية من الرطوبة، هذا إلى جانب أن التربة هشة والمسالك شاسعة مما يجعل عمليات التدريب يسيرة بالمقارنة مع مناطق أخرى، ويوجد بها حاليا قرابة 50 مالكا للجواد العربي الأصيل، أما من لهم ارتباط بالجواد فأعدادهم كبيرة، وقد أصبحت هذه المنطقة الصغيرة تصدر الجواد العربي الأصيل إلى قطر وألمانيا وإيطاليا وأخيرا سلوفينيا، وتحتفظ بعض العائلات بأصول أفراسها إلى حدود الجد العشرين.. كما أن هذه المنطقة الصغيرة أصبحت تصدر الفرسان الذين يشتغلون في السعودية وإيطاليا والبحرين وقطر، مما جعل هذه الحرفة ذات مردود إيجابي على كل العائلات سواء منها التي تربي الجواد العربي الأصيل وتسعى إلى بيعه، أو التي تدرب أبناءها على ركوب الخيل ثم تدفع بهم إلى ميادين السباق.