«ما بعد اللحظة».. رحلة تصويرية في مناطق لبنانية يقودها أطفال

ضمن مشاريع جمعية «ذاكرة» التي تهدف إلى تعليم الأطفال فن التصوير

الطفل ماهر الجبة بجانب صورة «أبو يحيى الصلح»
TT

بعد «اللحظة» تأتي «ما بعد اللحظة» لتشكل معرض صور حية عن واقع اجتماعي يوثق على أيدي من يعيشونه بحلوه ومره. إنما التوثيق هذه المرة لم يأت بعدسة محترفين ألفوا الكاميرا وعايشوها، هو نتيجة نظرة خاصة لأطفال لبنانيين وفلسطينيين من فئات اجتماعية مختلفة، بعضهم حرمتهم الحياة أدنى متطلبات العيش، فوجدوا في هذه التجربة منفذا لما يكمن في دواخلهم من أحاسيس ومواهب وصلت إلى درجة الإبداع. من بيروت إلى صيدا وصور وبعبك وطرابلس رحلة فنية طفولية واحدة قادتها جمعية «ذاكرة» التي يرأسها مصور وكالة الصحافة الفرنسية في لبنان رمزي حيدر، والتي يرتكز اهتمامها على إلقاء الضوء على دور التصوير الفوتوغرافي، وقدرة الصورة على التأثير في المجتمع. وكانت في مشروعها الأول «لحظة» عملت «ذاكرة» مع 500 طفل من المخيمات الفلسطينية في لبنان ضمن الهدف نفسه وأطلقت كتابا يحتوي على 141 صورة نقلت يوميات الحياة في هذه المخيمات.

الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها اليومية وخصوصية كل منطقة لبنانية، لا سيما الفقيرة منها، والمخيمات المكتظة والمعزولة، تختصرها صور «ما بعد اللحظة» التي التقطها نحو 250 مشاركا تتراوح أعمارهم بين 13 و19 عاما بعدما خضعوا على أيدي محترفين لدورة تدريبية عن قواعد التصوير الأساسية وتفاصيل تقنيات التقاط الصورة بكاميرات رقمية متطورة وزعتها عليهم الجمعية. قواعد كثيرة كانت كفيلة بوضع أرضية صلبة لتطلق موهبة أو تؤسس لمسيرة احتراف، فأنتجت معرضا كاملا متكاملا مؤلفا من نحو 60 صورة اختيرت من بين آلاف الصور التي التقطها المشاركون.

في افتتاح معرض مشروع «ما بعد اللحظة» في قاعة مسرح المدينة في بيروت الذي اكتظ بالحاضرين، لا سيما الأطفال المشاركين وأهلهم، كانت الأجواء العامة تعكس أهمية هذه التجربة بالنسبة إلى هؤلاء الذين كانوا يتسابقون ليلتقطوا صورا تذكارية بجانب أعمالهم المعلقة، وليشرحوا للصحافة عن صورهم وشغفهم للمضي قدما في تجربتهم وتطويرها.

يعبر ماهر الجبة (15 عاما) من بعلبك، ببراءة طفل وحماسة ناضج عن تجربته، فيقول «لم أكن أدرك أنني أملك موهبة التصوير، لكن مجرد خوضي هذه التجربة اكتشفت هذا الشغف الفني الموجود في داخلي الذي يدفعني إلى المضي قدما في هذا العمل، وأهم ما أحب التركيز عليه هو الآثار والبيوت القديمة ومظاهر الفقر التي تغزو مجتمعنا، إضافة إلى ملامح الأشخاص». من بين عشرات الصور التي التقطها ماهر، اختارت لجنة «مشروع ذاكرة» صورتين منها لتكون من بين صور المعرض، الأولى تلك التي ترصد شخصية لها تاريخ في التراث والفلكلور البعلبكي هو «أبو يحيى الصلح»، هذا الرجل العجوز بشخصيته الفذة الذي لا يزال متربعا على عرش قيادة فرقة دبكة بعلبكية منذ عشرات السنين ويأبى أن يترك منزله القديم من دون حتى ترميمه، متمسكا بمحتوياته التي أكل عليها الدهر وشرب. كذلك يعبر مارك بارود (17 عاما) عن أهمية تجربته، فيقول «منذ طفولتي وتلحق عيناي كل التفاصيل التي أحرص على التقاطها، لكن من دون قواعد أو أسس، إلى أن أتت تجربتي في «ذاكرة» لتصقل موهبتي وتضعني على الطريق الصحيح. التقطت ما يزيد عن 400 صورة ترتكز في معظمها على التناقضات والآثار والأشخاص والحياة الاجتماعية».

كما صور ماهر ومارك، أتت أعمال زملائهم مرتكزة على مظاهر الفقر المتمثلة في الحياة البدائية التي لا تزال تشكل طبيعة عيش بعض العائلات اللبنانية والفلسطينية في مناطق فقيرة حينا، وابتسامة بريئة مرتسمة على وجه عجوز أو طفل محروم من أدنى حقوقه في الملبس والتعليم واللعب حينا آخر، إذ لا تزال إطارات السيارات والدراجات لعبته الوحيدة. فيما هذه اللعبة نفسها، تحولت إلى مهنة في أيدي أطفال آخرين سرقت منهم طفولتهم، لتشكل مصدر لقمة عيشهم.

كما التناقضات في ملامح الأشخاص الحزينة والفرحة حينا والطفولة البريئة تلك اجتاحتها «التجاعيد الصافية» حينا آخر، كذلك كان لتناقضات واقع المجتمع اللبناني حضور، فوقفت تلك المباني الشاهقة في وسط بيروت جنبا إلى جنب مع تلك البيوت المهترئة جدرانها في مناطق لبنانية نائية أخرى.

أما على صعيد مراحل المشروع، فيبدي سماح أبو غانم، الذي تولى تدريب الأطفال في منطقة بعلبك، إعجابه في تطور عمل هؤلاء ومدى قدرتهم على التقاط المعلومات وتطبيقها، ويشرح عن البرنامج الذي اعتمد مع الأطفال «في المرحلة الأولى كان التركيز على القواعد النظرية في ما يتعلق بفن التصوير وكيفية استعمال الكاميرا الرقمية ثم سلمناهم آلات التصوير لينطلقوا على سجيتهم ويصوروا كل ما يحلو لهم، وبعد ذلك كنا نعقد جلسات نقدية حول هذه الصور وإرشاد المشاركين إلى الأخطاء التي ارتكبوها وليتعلموا قراءة تفاصيل الصور. وفي المرحلة الأخيرة رافقناهم في رحلتهم التصويرية بعدما حددنا الأحياء والمناطق التي تعتبر خصبة لالتقاط الصور، مع تأكيدنا على (قدسية) طبيعة الصورة وعدم (تشويهها) بالتقنيات الجديدة التي تضرب بعرض الحائط خصوصية هذا الفن».

ومما لا شك فيه أن نتيجة عمل «ذاكرة» كانت عملا رائعا جسدته هذه الصور المعروضة في المعرض وغيرها من آلاف الصور التي تعرض على الشاشة في القاعة نفسها وتوثق لحاضر أليم ولمرحلة مهمة في حياة أطفال قد يصبحون العين التي توثق لمستقبل لعله يكون أفضل من الذي عكسته تجربتهم الأولى.