السعودية والبحرين.. بحور من دبلوماسية الشعر

القصيبي بدأها.. «أمير السيوف» يثير الشعراء

خادم الحرمين الشريفين خلال تسلمه السيف الأثري «الأجرب» من الملك حمد بن عيسى آل خليفة خلال زيارته الأخيرة لمملكة البحرين («الشرق الأوسط»)
TT

أوحت مناسبة تسلم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز السيف الأثري «الأجرب» من الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين خلال زيارته الأخيرة للمنامة لكثير من الشعراء والكتاب بالحديث عن هذا السيف الذي يعد من السيوف المهمة في تاريخ الدولة السعودية ويعود للإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الثانية. كما أعادت هذه المناسبة الحديث عن أهمية مثل هذه المناسبات وإبراز دلالاتها، ويأتي في طليعتها عمق العلاقة التي تربط القيادتين والشعبين الشقيقين السعودي والبحريني على مر العقود الماضية حيث عدت زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى المنامة تأكيدا على رعاية العاهل السعودي للعلاقات الأخوية التي تربط بلاده بالبحرين من عهد أجداده وإلى اليوم، وأن تسلمه السيف الأجرب من ملك البحرين هو تجسيد لعمق هذه العلاقة حيث يمثل السيف رمزا لبطولات الإمام تركي بن عبد الله التي تشبه الأساطير وتوجها بتأسيس الدولة السعودية الثانية.

وأكدت المناسبة قيمة الشعر لدى العرب في إبراز الأحداث والمناسبات منذ ما يسمى بالعصر الجاهلي وحتى اليوم، فقد كان مصدر علوم اللغة والتاريخ والآثار والحياة الاجتماعية ومع أن النقاد انشغلوا بلغة الشعر وقوافيه وعروضه وعموده وأبواب فنونه إلا أن تصنيفات تولدت عند النقاد من خلال تصنيف الشاعر وشعره إلى غزل أو مديح أو رثاء أو حكمة أو حماسة أعطت الشعر حضورا كفن ومعاناة وثقافة تكوينية وجودية ولغة من الرموز الكثيفة عن الحياة ومواقف العربي من مشكلاتها.

وعلى مر العصور والقرون والعقود الماضية كان الشعر حاضرا بما يعد صميم الينبوع التجريبي والواقعي الذي صدرت عنه اللغة العربية فكان الشعر هو النشاط التعبيري شبه الوحيد الذي مارسته الثقافة العربية.

لقد حول العربي شعره إلى لوحات تضج بقصص حركية حية ومعها طور نغمة الشعر وموسيقاه إلى رموز كبرى في الحياة والوجود.

فقد تصرفت كثير من الأحداث في حياة كثير من الشعراء وساقت البعض منهم من النقيض إلى النقيض منذ الشاعر الكبير امرؤ القيس الذي يعد أول من نظم الشعر عند العرب وكان والده ملكا على بني أسد واختار الشاعر حياة اللهو ولم يكن يأخذ بأبهة الملك، بل تعلق بالحياة وشغف شغفا شديدا بها، ولما وافاه نعي أبيه بعد أن ثار قومه عليه وغدروا به لتعسفه بهم، حمل الشاعر الماجن ثأرا كبيرا فترك حياة اللهو والترنح والتهتك والتشبيب بنساء قومه إلى حياة جديدة لإقامة ملكه من جديد، كان سيفه ودرعه هما سلاحه في مواقعة بني أسد كما استخدم شعره ضد القوم الذين قتلوا والده الملك فلجأ إلى أسلوب دبلوماسية الشعر لتحقيق مطلبه وإعادة ملك أبيه الذي ضاع فشطر إلى قيصر الروم يوستيناينوس يستعين به ويستنصره؛ مطلقا صرخات الثأر واصفا قوته وصموده. و لم ينس الشاعر أن يصف رفيقه في رحلة البحث عن ملكه الضائع فقد ذكر أن صاحبه عمرو اليشكري عندما جاوزا بلاد العرب وبلغا بلاد الروم أدرك أن بلاده غدت نائية عنه يفصله عنها درب طويل، بكى حنينا ووجدا، ليجيبه الشاعر بقوله: لا تدع دموعك تنهمر، فنحن نسعى إلى استعادة ملك، فإما أن نستعيده وإما أن نموت من دونه، فنعذر عن فشلنا في بلوغه، مشددا على أن سعيه إلى القيصر ما هو إلا إمعان في طلب الثأر.

* هو المنزل الآلاف من جو ناعط - بني أسد من الأرض أوعرا

* ولو شاء كان الغزو من أرض حمير - ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا

* بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه - وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له:

* لا تبك عينك إنما - نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

* وغير بعيد عن ذلك فقد أطلق المهلهل عدي بن ربيعة خال امرئ القيس الذي لقب بالمهلهل لأنه أول من هلهل الشعر أي رقق ألفاظه وأضفى عليها العذوبة والبساطة، صرخات الثأر من قاتلي أخيه كليب، بعد أن تفجر الشعر في نفسه تحت وطأة الألم والثأر إثر مقتل أخيه مفتتحا قصائده بمطالع مأتمية ممعنا فيها بالبكاء والعويل مناديا بالويل والثبور زاجرا متهددا لتحقيق مطلبه في إبادة أعدائه حيث يخاطب أخاه كليبا ويقول إنه لم يعد هناك خير في هذه الدنيا بعد موته ولن يرجى الخير من أحد، بعد مفارقته لهم واصفا منازل السلان التي وقعت فيها الواقعة الشهيرة حيث إن المنازل التي يقيم فيها التغلبيون جعلت تبكيه دون أن يهرع أهلها إلى الثأر ثم يذكر فضائل أخيه كليب وما يتحلى به من فضائل لا تعد ولا تحصى:

* كليب لا خير في الدنيا ومن فيها - إذا أنت خليتها في من يخليها

* الحزم والعزم كانا من طبائعه - ما كل آلائه يا قوم أحصيها

* ثم ينتقل إلى ذكر سهاده بذي حسم بعد أن أخذ بثأره لمقتل كليب مفتخرا بشجاعته وما كان بينه وبين أعدائه حتى أنه أفرط في المبالغة في وصف المعركة، حتى جعل صليل السيوف يسمع باليمامة وبالتحديد عاصمتها حجر (الرياض حاليا) وقد كانت حربهم بالجزيرة وبين الموضعين عشرة أيام، واعتبر النقاد ذلك أول كذب سمع في الشعر:

* أليلتنا بذي حسم أنيري - إذا انقضيت فلا تحوري

* فلولا الريح أسمع من بحجر - صليل البيض تقرع بالذكور

* وعلى عكس ذلك نجحت «دبلوماسية الشعر» في جعله وسيلة للقضاء على آثار فجيعة عامة محملة بالأهوال والآلام الجماعية فها هو الأعشى صناجة العرب الذي نشأ وترعرع في قرية منفوحة في إقليم اليمامة وساح في أقاصي الأرض واتصل بسادة العرب وعظمائهم وكان الجميع يتسابقون لكسب مرضاته والإغداق عليه خوفا من لسانه يمتدح قائدا عسكريا وسياسيا شن حملة على قوم الأعشى وقد انهزم قومه، وسبى الكثير من نسائهم، فاضطر الأعشى الذي كان غائبا عن قريته منفوحة حين علم بمصاب أهله، أن يمتدح هذا القائد مثنيا على شجاعته وسطوته وجبروته على أعدائه وقوة بطشه في خصومه، وكاد أن يشمت كذلك بالمنهزمين، وأن يلحق بهم المهانة والإذلال حيث قال في مدح الأسود بن المنذر اللخمي أخي ملك الحيرة وقائدها في حملة شنها على قوم الأعشى قصيدة مسحت آثار الحقد من قلب القائد المنتصر ودعمت بذلك المبدأ القائل بأن العربي يتأثر بالفن والذوق فوق واقع السياسة اليومية وقد انسل الأعشى من حراجة الموقف بمدحه للغازي بهدف إنقاذ البقية الباقية من قومه من الأسر والفجيعة الدائمة:

* لا تشتكِ إلي وانتجعي الأسود - أهل الندى وأهل الفعال

* فرع نبع يهتز في غصن لمجد - غزير الندى شديد المحال

* وإذا كان الإمام تركي بن عبد الله الذي تغنى بسيفه واعتبره رفيق دربه في البطولات التي حققها فارسا وشاعرا يشار إليه بالبنان، فإن مناسبة تسلم الملك عبد الله لهذا السيف الذي انتقل إلى البحرين جعل شاعرا مثل غازي القصيبي يعود إلى عشقه الأول الشعر وهو خارج الوطن في رحلة علاجية واصفا السيف الأجرب بـ«أمير السيوف» مختزلا في قصيدة جميلة تاريخ السيف الذي يختلف عن كل السيوف وجعل القريب يدني إلى الأقرب.

وكان القصيبي قد كتب عام 1986 بمناسبة افتتاح جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين قصيدة تعد من أروع قصائده عنونها بـ«درب من العشق»، وفيها من المعاني ما يجسد بتصوير فني بليغ، العلاقة الوطيدة بين البلدين قال فيها:

* درب من العشق لا درب من الحجر

* هذا الذي طار بالواحات للجزر

* ساق الخيام إلى الشطآن فانزلقت

* عبر المياه شراع أبيض الخَفَر

* ماذا أرى؟ زورق في الماء مندفع

* أم أنه جملٌ ما مل من سفر؟

* وهذه أغنيات الغوص في أذني

* أم الحداةُ شَدَوا بالشعرِ في السَحَرِ

* واستيقظت نخلة وَسنَى تُوَشوشُني

* من طوَّقَ النخلَ بالأصداف والدُررِ؟

* نسيتُ أين أنا إن الرياض هنا

* مع المنامةِ مشغولانِ بالسمَرِ

* أم هذه جدةٌ جاءت بأنجُمِهَا

* أم المُحَرقُ زارتَنا معَ القَمَرِ

* وهذه ضحكاتُ الفجرِ في الخُبرِ

* أم الرفاعُ رنت في موسمِ المطرِ

* أم أنها مسقط السمراءُ زائرتي

* أم أنها الدوحةُ الخضراءُ في قَطَرِ

* أم الكويتُ التي حيت فهِمتُ بها؟

* أم أنها العينُ كم في العينِ من حَوَرِ؟

* بدوٌ وبحارةٌ ما الفرقُ بينهما * والبرُ والبحر ينسابانِ مِنْ مُضَرِ

* خليجُ إن حبالَ الله تربطُنَا

* فهلْ يقربُنا خيطٌ مِنَ البَشَرِ؟

* وأوحت الزيارة التاريخية للملك عبد الله إلى مملكة البحرين وتسلم خلالها السيف الأجرب من الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى تأكيد أهمية هذه المناسبة من خلال القصيدة التي ألقاها الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، مجسدة عمق العلاقة بين الدولتين ماضيا وحاضرا.

وتفاعل الشاعر البحريني عبد الرحمن الرفيع مع الزيارة التاريخية للملك عبد الله إلى البحرين ورحب في قصيدة له بقدوم خادم الحرمين وهو القدوم الذي أطرب قلوب الجميع وكأنما خفقاتها أصبحت أوتارا واعشوشب القفر بهذا القدوم:

* بقدومكم، تتكشف الأستارُ

* وتضيء في ظلماتنا الأقمارُ

* يا خادم الحرمين، إنك نعمةٌ

* دفاقةٌ.. تجري بها الأقدارُ

* طربت بمقدمك الكريم قلوبنا

* فكأنما خفقاتها أوتارُ

* بوجودكم فرح الوجود جميعه

* الناس والأشجار والأطيارُ

* واعشوشب القفر الجديب بكفكم

* فكأن فيها تهطل الأمطارُ

* يا سيدي هي زورةٌ تاريخها

* باقٍ، ونفح شميمها معطارُ

* هي والربيع حللتما أهلا معا

* حيث الثرى والورد والنوّارُ

* ملكان.. في البحرين.. عرس طالما

* تاقت لمرآه السعيد الدارُ

* حلمُ الجدود لقد تحقق حاضرا

* ليل نسير بركبه ونهار

* حلم نراه حقيقةً بعيوننا

* يرعاه ربٌ واهب غفّارُ

* قصيدة الدكتور غازي القصيبي

* رفيقَ الرجالِ!.. سلاحَ الأبي!

* سلامٌ على حدِّك اليعرُبِي

* سلامٌ عليك دخلتَ الحروبَ

* وليدا.. وما زلتَ لم تتعبِ

* تَفَرَّقُ حين تراك العِداةُ

* لذلك سُمِّيتَ (بالأجربِ)

* لئن كُنْتَ في كَنَفٍ طيِّبٍ

* فقد صرتَ في كَنَفٍ طيِّبِ

* وإن كُنْتَ ذُخْرَ المليكِ الهُمامِ

* فإنَّكَ ذخرُ أبي متعبِ

* تَنقَّلُ في العزّ بينَ العروشِ

* من الأغلبِ الحرِ.. للأغلبِ

* تقرِّب - لا مثل - باقي السيوفِ

* وتدني القريبَ إلى الأقربِ

* ربوعَ اللآلي! حماكِ الإلهُ

* ولا زلتِ في هامة الكوكبِ

* ويا قلعة الدين! لن تُغلبي

* فخير البلاد.. بلاد النبيِ