ثقافة الاستهلاك تغزو مناطق كردستان العراق

محال السوبر ماركت في أربيل عامرة بالمنتجات الأجنبية

سوبر ماركت «نيو سيتي» في أربيل («الشرق الأوسط»)
TT

قبل سنوات قليلة انبهر سكان مدينة أربيل، كبرى مدن كردستان العراق، بافتتاح أول مجمع تسوق (سوبر ماركت) حمل اسم «نيو سيتي» وسط مدينتهم. وهو مجمع بني وفق مواصفات أوروبية لم يعتدها سكان المدينة في ذلك الوقت. ورغم أن التسوق في ذلك المجمع كان ترفا بسبب ارتفاع أسعار معروضاته، فإنه كان مكتظا على الدوام، لا للتسوق بالضرورة، بل للتفرج والمشاهدة بصورة خاصة.

لقد كانت القنوات التلفزيونية الفضائية تعرض فقرات إعلانية دعائية لمستحضرات التجميل، كالكريمات (الدهانات) والعطور والشامبوهات ومواد التجميل الأخرى، من مختلف الماركات العالمية التي كانت مفقودة تماما في كردستان العراق، والعراق عموما، في التسعينات وبداية القرن الحالي. إلا أن منتجات هذه الماركات أصبحت اليوم متوافرة في محال السوبر ماركت في أربيل، بل أصبحت مجمعات التسوق هذه تروج لماركات أجنبية تعرض إعلاناتها في قنوات أوروبية.

آشنا رسول تقول معلقة على تبدل الأحوال «كنا نتحسر في الماضي على الشامبوهات التي تعرض إعلاناتها في القنوات الفضائية يوميا، لكن اليوم أصبح كل شيء متوفرا بفضل السوبر ماركت، لا بل غدت مئات الأنواع من الشامبوهات ومن أحدث إصدارات العطور وغيرها، في متناول أيدينا وبأسعار مناسبة أيضا».

وتقول فضيلة حسين «كنت أوصي أخي المقيم في السويد باحتياجاتي من الكريمات، وكنت أنتظر أسابيع قبل أن تصل لي بيد أحد الراجعين إلى كردستان من أصدقاء أخي، لكني ما عدت بحاجة لكل ذلك. فكل ما أريده موجود وبزيادة، حتى إن الواحدة منا باتت محتارة إزاء أي الماركات تختار. الحمد لله لقد أصبحنا مثل الآخرين نحصل على كل ما نريده وبأحدث الموديلات بفضل هذه الحركة التجارية الحرة».

اللافت حقا أن أعداد محال السوبر ماركت هذه تزداد يوما بعد يوم، وبعدما كان العدد لا يتجاوز اثنين، فإنها غدت منتشرة في كل أرجاء المدينة، وبالكاد تجد محلة أو حيا سكنيا يخلو من وجود عدد من محال السوبر ماركت، بجانب المتاجر الصغيرة التي تسمى «ميني ماركت» التي تحتل الآن موقع الدكاكين والمحال القديمة. إن ما يحدث اليوم أشبه بهوس جماعي بتحديث الدكاكين القديمة وهدمها أو تحويلها إلى مجمعات تسوق صغيرة التصاميم بأبهى الديكورات. وأضحت مدن كردستان العراق، بالفعل، تحاكي المدن الأوروبية من حيث انتشار هذه الأسواق والمجمعات التسوقية، وهذا بموازاة الهوس بإنشاء المدن الجديدة داخل أربيل، العاصمة الإقليمية، فهناك «القرية الإنجليزية» و«القرية الألمانية» و«القرية التركية»، وهي عبارة عن مجمعات سكنية من شقق وفيلات تنافس المدن الأوروبية في تصاميمها، ومن أهم شروطها تأسيس سوبر ماركت داخل هذه المجمعات السكنية.

قبل سنوات معدودة، كانت زيارة السوبر ماركت تأتي بغرض التفرج بالنسبة للعائلات الكردية التي كانت تخرج مساء لقضاء بعض الوقت فيها مع أطفالها المبهورين بالسلالم الكهربائية التي كانت تصعدهم إلى الطوابق العليا. لكن بفضل الانتعاش الاقتصادي في الإقليم منذ عام 2005 صارت زيارة هذه المجمعات عادة يومية للتسوق وشراء كل ما تحتاجه العائلة، خصوصا النساء.

وبالتالي، غزت ثقافة الاستهلاك الغربية المجتمع الكردستاني بأسرع مما يتصوره المرء. وبعدما كانت معظم العائلات الكردية تكتفي بتدبير غذائها اليومي، تراها اليوم مقبلة وبشكل غير مسبوق على الكماليات، والأطعمة الجاهزة التي تبيعها هذه المجمعات، بالإضافة إلى جميع المواد الاستهلاكية الأخرى من مستحضرات التجميل إلى المواد الغذائية والأجهزة الكهربائية. بل إن معظم هذه المجمعات أنشأت صالات ألعاب ملحقة بها كي يلعب الأطفال فيها أثناء انهماك الأمهات بالتسوق في الداخل.

سرود نادر، موظف حكومي من الذين شعروا بحجم التغيير الكبير، وعنه يقول «كان راتبنا لا يكفي لدفع إيجار السكن وكنا نعيش على الكفاف. أما الآن، والحمد لله، فأصبحت اليوم أملك دارا سكنية بفضل مشروع الإسكان، وعينت زوجتي في إحدى الدوائر، وأصبحت حالتنا المعيشية جيدة والحمد لله. ولكن صدقني إذا قلت إن راتب زوجتي في الدائرة ما عاد يكفي لتلبية طلباتها اليومية من السلع النسائية التي تبتاعها من السوبر ماركت، فكل يوم تأتي بنوع جديد من الشامبو ومن العطور ومساحيق التجميل وغيرها».

غير أن آراس حمة، سعيد بلا تحفظ بالوضع الحالي، فـ«أسعار المواد في السوبر ماركت مناسبة وتنافسية مع السوق، بل في بعض الأحيان نجد أسعارها أرخص مما يباع في محال سوق القيصرية أو ما يماثلها. ولذا ما عدنا بحاجة إلى الذهاب للسوق لشراء حاجياتنا، لأن كل ما نريده موجود في السوبر ماركت وبالأسعار ذاتها أو مع بعض الزيادة الهامشية لكن بموديلات أحدث، وأنتم تعلمون أن الشباب يبحثون دائما عن الموديلات الجديدة وهي متوافرة داخل محال السوبر ماركت هذه».

من ناحية أخرى، تجد سوزان أ. وهي مديرة مدرسة، ميزة كبيرة في السوبر ماركت، هي أنها «تظل مفتوحة إلى منتصف الليل، وهذا ما يساعدنا نحن الموظفات على تأجيل مواعيد تسوقنا إلى المساء. فالمعروف أن المحال العادية في السوق تغلق مع حلول المساء، في حين تظل محال السوبر ماركت مفتوحة، وهكذا، فإن أنسب وقت لتسوقنا هو بعد تناول العشاء، إذ نخرج براحتنا مع أطفالنا.. نحن نتسوق وهم يلعبون». وتضيف سوزان «في الحقيقة لم نعد بحاجة للذهاب إلى السوق، لأن كل ما نريده موجود في هذه المجمعات الكبيرة حتى مستلزمات الطبخ والفاكهة الطازجة والحبوب وكل ما تحتاجه العائلة، لذلك أتمنى توسعا أكبر في فتح مثل هذه المجمعات التسوقية في جميع أحياء المدينة على غرار ما هو موجود في مدن أوروبا».

أما بالنسبة للتخوف من «غزو» ثقافة استهلاك المجتمع الكردستاني، فتقول سوزان - وهي أم لثلاث بنات وولدين «صحيح، هناك تغير في العادات، فبناتي يأتين معي تقريبا كلما خرجت للتسوق ويحملن معهن ما يردن من احتياجاتهن. وألاحظ عليهن إفراطا في التنويع والكمية، حتى إن بعض ما يشترينه لا يستعملنه إلا مرة أو مرتين، ومن ثم يتحولن إلى نوعيات أخرى. لا شك هناك هوس بالتغيير لدى معظم أبناء هذا الجيل.. تصور أن ابني البكر غير جهاز هاتفه الجوال مرتين في ظرف شهر واحد! ولكن ماذا عسانا نفعل؟ إنهم شباب وجيل جديد لم يروا ما رأيناه من أيام الحصار والكفاف، لكن علينا التعايش معهم ومع ثقافتهم».