أقدم خياط في نجران يحكي بانوراما الأزياء في جنوب السعودية

على مدى نصف قرن أنتج أجمل الملابس الشعبية

نصف قرن من العلاقة العميقة بين الخياط محمد بن سروان وماكينة «سنغر» («الشرق الأوسط»)
TT

في ركن منزو بالسوق الشعبية في مدينة نجران، بجنوب المملكة العربية السعودية، يجلس محمد بن سروان منهمكا في حياكة ثوب نسائي بأوصاف ومقاييس أتقنتها يداه على مدى نصف قرن من الزمان، مستعينا بماكينة خياطة قديمة - علما بأنه كان أول من أدخل ماكينة خياطة إلى المنطقة. وقد تراكم التالف منها، ومثلت شائعة الزئبق الأحمر ضربة حظ رفعته عن خط الفقر.

في هذا المكان بطابعه التراثي الفريد في نجران لم يتوقف هدير الماكينة، مختلطا مع أصوات الباعة من الدكاكين القديمة، ومنتجا 50 ثوبا نسائيا بيعت لزوار الجنادرية في العام الماضي.

الواقع أن العلاقة بين ماكينة الخياطة من ماركة «سنغر» التليدة وابن سروان علاقة طويلة امتدت لأكثر من نصف قرن. ومعا أنتجا أجمل الملابس الشعبية النجرانية وأروعها.

إنها قصة كفاح مشترك أعطته عن جدارة لقب أقدم خياط في نجران، والوحيد الذي يحيك الملابس النسائية والرجالية الشعبية، ولا يزال يتمسك بالأسلوب ذاته والطريقة ذاتها في خياطة الملابس الشعبية القديمة.. التي لا يجيدها غيره من الخياطين.

ويقول ابن سروان لـ«الشرق الأوسط» إنه شارك في مهرجان الجنادرية 23 مرة، ضمن معرض نجران، وإن أعماله من الأزياء النجرانية القديمة ظلت تلفت نظر الزوار، إضافة إلى مشاركته في عدد كبير من معارض الحِرف اليدوية داخل المنطقة الجنوبية وخارجها. وهو يصفها كلها بالناجحة، نظرا للإقبال المتزايد عليها من قبل الجمهور، لا سيما تمكنه من بيع أكثر من 50 ثوبا نسائيا لزوار الجنادرية هذا العام.

ويشرح ابن سروان حكاية مسيرته مع هذه المهنة فيقول «خرجت إلى الدنيا في بيت يمتهن الخياطة، وتعلمت أساسيات العمل وأنا في سن العاشرة. وقد علمني والدي الإخلاص والجد في العمل. لقد كان العمل في الماضي بطيئا جدا، إذ كنا نستخدم الخيط والإبرة والتطريز اليدوي، وكان العمل بهذه الطريقة يستغرق أسبوعا للثوب الواحد، وقبل 50 سنة أحضرت ماكينة خياطة من جدة، وكانت أول ماكينة خياطة تدخل إلى نجران».

ثم يتناول بالوصف أزياء النساء في السابق بقوله «نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها المنطقة في ذلك الوقت، كانت المرأة تفصّل ثوبا واحد فقط كل سنتين أو ثلاث سنين، وكانت قياساتها تؤخذ بواسطة والدها أو شقيقها أو زوجها بالخيط، ويأتيني به لأفصل الثوب عليه. وعندما تكبر البنت ويقصر الثوب، يمكن أخذ وصلة بطول ذراع أو ذراعين، ويجري وصلها بالثوب، وإذا قطع الثوب أو شق يصار إلى رقعه».

وأعاد ابن سروان اتخاذ اللون الأسود في الثياب النسائية إلى أن الأقمشة لم تكن تصل بسهولة إلى نجران كما هو الحال اليوم، ولم تكن هناك أقمشة مستوردة، وإن وُجدت تكون فوق قدرة النساء في ذلك الحين. وتابع، شارحا أن «الزي في نجران، قديما، كانت له شخصية خاصة جدا من حيث تصميمه وعلاقة كل قطعة بالأخرى. وهو يتميز بالوقار الشديد، بلونه الأسود المطرز ببعض الخيوط الحمراء على الصدر، ولعل أهم الملابس النسائية التي يعمل على خياطتها هي (المزندة) و(المكمّم)، وهما من أجمل أزياء المرأة النجرانية في الماضي».

وزاد «المزندة تتسم بجمال التصميم وروعة النقوش لأنها تصنع من أقمشة ملونة مع أكمام ضيقة ولها وسط ضيق يتسع كلما اتجهنا إلى أسفل، وسعرها يتجاوز 200 ريال. أما المكمّم فهو عبارة عن ثوب أسود من قماش يسمى (الطاقة) ذي اتساع شديد من الأسفل ويضيق كلما ارتفع إلى الوسط، وله أكمام عريضة جدا يصل عرض الواحد منها أحيانا إلى عرض ثوب كامل، وتلبسه المرأة عادة فوق ثوب آخر ويصل سعره الآن إلى 300 ريال. أما أنواع الثياب الرجالية فأشهرها (المذيّل) والثوب العادي، وتصنع من البز السواحلي وتتراوح أسعارها بين 120 و150 ريالا».

وعن ملابس العروس قال ابن سروان «يُفصّل لها ثوب مكمم سواحلي أسود اللون ومبطن من الداخل باللون الأبيض، مع طاقة منيلة مصبوغة»، موضحا أنه من ضمن العادات والتقاليد في نجران أن تجلس العروس في منزل والدها لمدة 8 أيام، ومن ثم تتأهب للذهاب إلى منزل زوجها على ظهر بعير، وتلبس الثوب نفسه، لكنها تقلبه بحيث يكون اللون الأسود في الداخل واللون الأبيض في الخارج، فيظهر وكأنه ثوب جديد.

ومن المواقف التي لا تنسى - بحسب محمد بن سروان - ذلك المستودع الذي كان معبأ بماكينات «سنغر» التالفة، ويقدر عددها بنحو 500 ماكينة، كان جمعها خلال سنوات عمله ولم يكن يعرف كيف يتخلص منها، إلى أن انتشرت شائعة الزئبق الأحمر، فتهافت الناس على دكانه لشراء الماكينات التالفة، وتدخل رجال الأمن لتنظيم الناس وحركة المرور. ومع أنه أبلغهم بأن الماكينات تالفة ولا تصلح للعمل نهائيا، فقد أصروا على شرائها بمبلغ تجاوز 30 ألف ريال، ولقد تعدى سعر بعضها 300 ريال.

أخيرا، عن بقائه لأكثر من نصف قرن من الزمان في الدكان ذاته، من دون تطوير أو تجديد للمكان أو التوسع في مشروع أكبر، قال ابن سروان «كسبت خلال هذه السنين الطويلة حب الناس ورضاهم، ولا أرغب في ترك هذا العمل حتى أموت. وبطبيعة الحال، أستطيع أن أحضر عمالا وابني مصنعا للملابس، لكنني أهوى العمل بيدي إلى حد الجنون. فالعمل يشعرني بوجودي في الحياة، كما أنني لم أعتد مطلقا الجلوس في المنزل».