كتاب مصريون يكشفون آثار «الولد الشقي» المتوارية خلف «قفشاته»

خيري شلبي اعتبره قصاصا عظيما يساوي يوسف إدريس

TT

كأن لحظة رحيله هي نفسها لحظة الميلاد، فما إن ووري الولد الشقي محمود السعدني الثرى ظهر أمس (الأربعاء)، حتى خرجت إلى السطح مشاعر وأحاسيس يكنها ممثلون عن أجيال إبداعية مختلفة له، توارت كثيرا صورة الكاتب اللاذع خفيف الظل، وظهرت ملامح أخرى لأثر السعدني وموهبته، مرة كقاص بارع طغت شهرته الصحافية على إبداعه، وأخرى كمؤرخ لتاريخ مصر الاجتماعي تختفي ثقافته خلف قفشاته ومزاحه، أو معلم حنون يرعى نبتات المواهب لتنمو وتكبر في تربة تعرف قيمة الإبداع وتحتضنه في أبوة خالصة. من بين الجوانب المتوارية للسعدني إسهاماته الأدبية، فيعتبره الأديب خيري شلبي أديبا وليس صحافيا، واصفا إياه بأنه أديب يكتب الصحافة، وكان اشتغاله بالصحافة من باب الأدب لينشر فيها قصصه. كما أنه «واحد من بين أربعة كان لهم الفضل في تحديث القصة القصيرة المصرية والسير بها في اتجاهها الواقعي، مع يوسف إدريس ويوسف الشاروني وشكري عياد، وهو علامة مهمة في تاريخ هذا الفن».

وتابع شلبي لـ«الشرق الأوسط»: «تبقى قصص السعدني أكثر التصاقا بالمزاج المصري بكل تقلباته وطبقاته المستترة والمعلنة، فهو رحمه الله كان على اتصال دائم بقاع المدينة».

وعن إسهاماته الصحافية شدد شلبي على أثر السعدني الإيجابي في بلاط صاحبة الجلالة فقال: «كانت موهبته من المرونة بحيث وجدت في مجال الصحافة متسعا لنموها على أصعدة مختلفة، فأصبح من كتاب العمود الصحافي في سن مبكرة، وهو أمر لم يكن متاحا إلا للكبار، وكتب المقال القصصي الذي يحكي فيه حادثة أو رحلة بشكل لم يسبقه فيه أحد». وقال شلبي إن السعدني له السبق في تدشين أدب الاعتراف العربي، فقبله لم يكن موجودا، مشيرا إلى أن أعماله ومنها الطريق إلى زمش، ومذكرات الولد الشقي، ووداعا للطواجن، ومسافر على الرصيف، ورحلات بن عطوطة، تعطي نموذجا للأدب الساخر المتعمق في المفارقات التي قد لا يتنبه إليها الكثيرون منا، وهي مفارقات برأيه يلتقطها فنبتهج ونضحك ثم نفكر ونتعظ.

إلى ذلك، قال الكاتب بلال فضل لـ«الشرق الأوسط»: «الكتابة الساخرة قبيل محمود السعدني كانت مقترنة بفكرة الظرفاء والقدرة على التقاط المفارقات الكوميدية، وبفضله اتسع نطاقها فاشتبكت مع الواقع السياسي والاجتماعي، وكانت الكتابة الساخرة قد انفضت عن السياسة منذ عبد الله النديم فأعاد السعدني زواجهما الكاثوليكي مرة أخرى، وأسس مع أحمد رجب أسسا جديدة لها، وإن تركزت كتابات رجب الأولى على الواقع الاجتماعي فقط». وأشار فضل إلى أن السعدني ليس مجرد كاتب بل فيلسوف انتشل الكتابة الساخرة من الهجاء إلى آفاق أخرى، ولعل كتبه: أمريكا يا ويكا، ومصر من تاني، وغيرها حافلة بالأفكار المتعمقة الضاربة في الجذور، والمصاغة بأسلوب سهل وممتع في الوقت نفسه، لافتا إلى أن «أبرز سمة من سماته، كونه (السعدني) ملتصقا بالهوية المصرية، فرغم معيشته سنوات طويلة في أقطار مختلفة وإجادته لغاتها ولهجاتها فإنك من الصعب تخيله يكتب في مكان آخر غير مصر، فهناك كتاب كثيرون في مصر، لو كانوا شواما أو خليجيين أو مغاربة سيبدعون أيضا لكن السعدني لا يمكن أن تتصوره أبدا يكتب عن واقع غير مصري».

ولفت بلال إلى أن الإنجليز مثلا لديهم كتاب كبار لكن شكسبير هو الكاتب الملتصق بهويتهم، والأيرلنديون لديهم أسماء مرموقة لكن برنارد شو هو كاتبهم، والسعدني هو كاتب الهوية المصرية، منتقدا في الوقت نفسه إهمال إبداعه وكتاباته وعدم طبعها مجددا، إضافة إلى تجاهل المؤسسة الرسمية في مصر لتكريمه أو ما سماه «التظاهر بالحداد على وفاته». وأضاف بلال: «أعتبر كتاب مصر من تاني، أفضل ما كتب في الرصد الاجتماعي والسياسي للواقع المصري في التاريخ المعاصر، فقد تخطى به ابن إياس والجبرتي وأسماء كثيرة كبيرة».

وقال بلال إنه استفاد كثيرا من خبرة السعدني الإنسانية مؤكدا امتلاكه لفراسة مكنته من التنبؤ بأحداث كثيرة، وبمستقبل نجوم كبار مثل عادل إمام وغيره، مشيرا إلى حكمه الصحيح على الأمور والأشخاص المدعوم بخبرة اكتسبها من التجوال على الأرصفة بل النوم عليها أحيانا، ودخول القصور والإقامة فيها أيضا.

كما شدد بلال على الجانب الإنساني في السعدني واصفا إياه بأنه كان خير معين للكتاب الجدد، ووقف بجانبه كثيرا في بداية حياته خاصة بعد فقده لعمله، فبحث بنفسه عن فرص عمل له لإيمانه بموهبته، بل أشاد السعدني به لأول مرة في حديث إذاعي عقب قراءته لأحد أعماله، دون أن يعرفه. ومن جانبه وصف الكاتب الساخر عاصم حنفي محمود السعدني بالمعلم، معترفا أنه كان السبب في توجهه (حنفي) للكتابة الساخرة، وأنه قلده لفترة في بداياته، وكان يصلح أخطاءه وينصحه بإعادة كتابة أجزاء من أعماله الأولى إلى أن استقل بأسلوبه.

وتابع حنفي: «فوجئت أن السعدني يتابع كتاباتي في بداية مشواري الصحافي، ثم نصحني بالتخصص في الكتابة الساخرة بعد أن شعر بين سطور كلماتي بقدرة على السخرية، ثم قال لي كلمة لن أنساها: عاوزك تكمل في هذا الطريق، فهو كمعلم كبير يسعده أن يكون له تلاميذ ينتمون إلى مدرسته بإبداعهم الخاص».

وقال حنفي إن السعدني أعاد الهيبة للكتابة الساخرة، مدشنا لمفهوم الكاتب الساخر المثقف الذي يمتلك رؤى معقدة ودسمة ثم يصوغها في أسلوب سلس وممتع أقرب للكوميديا السوداء. مضيفا: «الكاتب الساخر الذي وضع السعدني مقاييسه، يعي تماما كل الواقع السياسي والاجتماعي حوله، ويتفاعل معه، ومع ضمائر الناس ثم يحول الرصانة إلى ألفاظ سهلة وممتعة، من زاوية لا يراها الآخرون».

ومن ناحيته وصف الكاتب أسامة أنور عكاشة السعدني بأنه «آخر ظرفاء العصر»، «فهو دنيا كاملة من البهجة والسخرية والفرح.. هو قوّال مصر بلا منازع.. بل أفضل قوال في تاريخنا».

وتابع عكاشة: «أشعر باليتم الآن من فقده.. فهو رجل لا تمل جلسته.. وتخرج منها وقد زادت معارفك وخبراتك وثقافتك، وفوق كل ذلك متعتك.. بل تتغير حالتك النفسية للأفضل.. وتود ألا تتركه أبدا».

وقال الشاعر والناقد أسامة عفيفي إن الجانب الساخر في كتابات السعدني ظلمت موهبته الأدبية، فهو برأيه أديب مؤسس له أربع مجموعات قصصية وثلاث روايات، يكتب لغة خاصة مستقاة من فلسفة، وترصد المفارقات وتشهر السخرية في وجه الظلم. وأضاف عفيفي أن أعمال السعدني الإبداعية مثل الإفريكي، وجنة رضوان حافلة بالموهبة لكنه لم يدرج ضمن القصاصين الكبار بسبب شهرته كساخر.

وبحسب عفيفي، فإن أعمال السعدني الأخرى مثل مسافر على الرصيف، وأمريكا يا ويكا، نوع من الكتابة الروائية القائمة على شجرة الحكي الشعبية، فهي برأيه نصوص عابرة للنوعية، جعلته امتدادا شرعيا لإبراهيم عبد القادر المازني التي كانت مقالاته تنتمي لفنون القص وتمتع القارئ، بل تجعله في أحيان كثيرة يحاول ملامسة سطورها وحروفها.