تجارة المقاهي في البلقان.. كتب وورود وملابس

حروب تسعينات القرن الماضي والأزمة المالية دفعت الكثيرين للبحث عن بدائل لوظائفهم المفقودة

فخرو يعمل منذ 10 سنوات في بيع كتيب أدعية تبرع به أحد الأئمة لدعم جمعية المعاقين البوسنيين وإيدين بعد طرده من العمل لجأ لبيع الأقلام لإعالة أسرته («الشرق الأوسط»)
TT

أفرزت تجارة الأزمة المالية أساليبها الجديدة المتكيفة مع الوضع الراهن، لا سيما بعد أن وجد آلاف العمال أنفسهم على قارعة الطريق. وفي البلقان أفضت الأزمة إلى طمس بعض ما بقي قائما بعد الحرب المجنونة التي عصفت بالمنطقة، ناهيك عن جمهوريات يوغسلافيا السابقة، وبالأخص البوسنة وكوسوفو، ثم مقدونيا، وصربيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، في حين مثلت سلوفينيا استثناء إلى حد ما.

حروب تسعينات القرن الماضي ثم الأزمة المالية، دفعت الكثيرين للبحث عن بدائل لوظائفهم المفقودة، تمثلت في تجارة المقاهي، وهي تجارة بسيطة جدا يهدف متعاطوها لتوفير الحد الأدنى من الضروريات، وذلك كل مبلغهم من ممارستها. بعضهم يبيع كتبا إسلامية، وبعضهم الآخر أقلاما، وآخرون يبيعون ملابس بسيطة، كالجوارب، يطوفون بها المقاهي، والمطاعم، بحثا عن الزبائن، مثيرين بذلك شفقة البعض، فيعطيهم أكثر من السعر المعلن بقليل.

يدخل فخرو إلى المقاهي والمطاعم، ويضع نسخا من الكتاب الذي يبيعه على كل طاولة في المكان، ثم يعود لجمعها أو قبض ثمنها من الزبائن. فخرو (27) سنة متزوج وليس له أطفال، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه يعيش من بيع نسخ من كتاب «أدعية» به 61 دعاء، أعده أحد الأئمة، ويدعى إسماعيل سليموفيتش، ثم تبرع به لجمعية المعاقين في البوسنة. ولأن فخرو معاق فقد كُلّف ببيع الكتاب الذي يعود ريعه لجمعيته. وهي طريقة مبتكرة للتبرع والدعم من خلال الجهد الثقافي الروحي، الذي ينفع جميع الأطراف، بما في ذلك المشتري. وعن تجربته في هذا الميدان قال: «أعمل في توزيع نسخ من هذا الكتاب منذ 10 سنوات، وأبيع ما معدله 10 إلى 15 نسخة في اليوم، والنسخة بـ1.75 يورو» وعما إذا كان يسافر إلى مدن أخرى للبيع نفى فخرو ذلك، «فقط في سراييفو، وأنا راض على ما أجنيه من بيع كتاب الأدعية هذا». وعما إذا كان هناك غير مسلمين يقبلون على شراء الكتاب، أكد فخرو أن «الكثير من غير المسلمين يقومون بشراء الكتاب، وبعض الزبائن يدفعون لي ثمنا أعلى ولكنه لا يتجاوز 2.5 يورو» ونفى فخرو تعرضه لأي عملية مساومة وجدال حول السعر «لم يسبق أن جادلني أحد الزبائن في السعر، أو تعرضت للخداع أو القرصنة على سبيل المثال، بل أجد تعاطفا من الجميع؛ سواء من يشتري أو من يعتذر».

ولا يملك فخرو منزلا، وإنما يعيش بالإيجار مع زوجته التي لا تعمل، في غرفة لا تتوفر فيها شروط الحياة الكريمة، ومع ذلك يدفع 100 يورو لصاحب (البيت) كما قال.

ومن بين (تجار) المقاهي إدين تشالو (52 سنة)، له ولدان، كان يعمل لحاما في إحدى الشركات، لكنه تم طرده من العمل، ويعيش من بيع الأقلام منذ 5 سنوات. وحول دخله من هذه التجارة البسيطة جدا قال: «بين 15 و17 ماركا (بين 5.7 و8.5 يورو) في اليوم. أما مصادره فهي المكتبات؛ حيث يقوم بشراء الأقلام بالجملة بنحو ربع يورو للقلم الواحد، ويبيعه بيورو واحد في المقاهي والمطاعم والشوارع، وفي كل أنحاء المدينة حسب قوله. وعن صافي أرباحه في اليوم قال: «أجني ما بين 7 و10 ماركات صافية الأرباح (بين 5.3 و5 يورو في اليوم). وحول ما إذا كان هذا المبلغ يكفيه، وهو لا يكاد يغطي مصاريف الكهرباء والغاز والماء؛ فضلا عن الهاتف في بيت لا تزيد مساحته عن 65 مترا مربعا، أفاد بأنه يعيش مع أصهاره، بعد أن أُحرق منزله أثناء الحرب، قائلا «أعمل هروبا من الجوع والعطش، والله سبحانه يرزقني من هذا العمل». وعن أبنائه قال: «لدي ابن عمره 21 سنة، وآخر عمره 12 سنة، ولكن ابني الأكبر لا يعيش معنا؛ له ظروفه الخاصة».

إيدين مثل فخرو، يشكر الكثير من الزبائن الذين يعطونه أحيانا أكثر من السعر المحدد للقلم الواحد، وهو نصف يورو. وعن حياته داخل المنزل أشار إلى أنهم يبيتون أحيانا على الطوى، ويحرمون أنفسهم من أجل توفير ثمن الفواتير.. «أحيانا نظل جوعى وعطشى من أجل توفير قيمة فواتير الكهرباء والغاز والماء وغيرها، ولكن هناك دائما الناس الطيبون». وعما إذا بحث عن مساعدة لإعادة بناء بيته المهدم جراء الحرب قال: «بحثت عن مساعدة لإعادة بناء البيت دون جدوى، وقد أصابني اليأس»، وعن قيمة المبلغ الذي يحتاجه لإعادة بناء منزله، أفاد بأنه يحتاج لـ20 ألف يورو «لا أريد بيتا فسيحا، بل غرفة وحماما ومطبخا صغيرا، أقضي فيه بقية حياتي مع زوجتي وابني».

وإذا كان بعض الناس قد دفعتهم الأوضاع الاقتصادية، للصراع من أجل البقاء، ببيع الكتب أو الأقلام في المقاهي؛ فإن البعض الآخر اختاروا بيع الزهور، واصطياد الفرص المتاحة لذلك.

مهيدة موليتش (9 سنوات) تتنقل هي الأخرى من مقهى إلى آخر، ومن مطعم إلى مطعم ثان، ولا سيما في الساعات الأولى من الليل. فهي تعرف جيدا ماذا تريد، ومن تقصد. ورغم صغر سنها؛ فإنها ذكية جدا. سألتها «الشرق الأوسط» عن مصادر الورود؛ فأفادت بأن أمها هي من تقوم بشرائها، من المشتل، ثم تسليمها إليها لتطوف بها على المقاهي والمطاعم.. «أعيش مع أمي وأختين صغيرتين وحدنا، فقد توفي والدي - رحمه الله - في حادث مرور قبل سنتين، تركنا وحدنا، وكانت أمي تعمل، لكنها فقدت عملها». وعن سبب اختيارها لبيع الورود دون سائر وسائل الاسترزاق الأخرى التي تفرزها الأزمات العامة والخاصة، كأزمتها المركبة، قالت: «كان والدي في حياته لا يعود يوما بدون أن يجلب لأمي وردة، وظل كذلك حتى وفاته، ووفاء لذكراه طلبت مني أمي أن أبيع الورد في المقاهي والمطاعم؛ لأنها كانت تخرج أسبوعيا معه لتناول العشاء في أحد المطاعم». وعن أسباب اختيار الساعات الأولى من الليل لممارسة تجارتها الصغيرة أفادت «والدي كان يأتي بالورد إلى أمي في المساء، ولأن الأزواج يخرجون في المساء لتناول العشاء». وليس كل من يشتري الورد من مهيدة يرغب في ذلك، فكثيرا ما يُحرَج البعض عندما تقف إلى جواره؛ تنظر مرة إليه ومرة إلى زوجته أو خطيبته، أو عندما يشتري جاره في الطاولة المقابلة أو المجاورة وردة لزوجته أو خطيبته، فيفعل هو ذلك من باب رفع الحرج. لقد شاهدت «الشرق الأوسط» أوداجا تنتفخ، ووجنات تحمر وتصفر وهي تدفع مبلغا بسيطا للوردة الواحدة التي لا يزيد سعرها عن 5.2 يورو، بينما لا يقل عشاء ذلك (البخيل) عن 50 يورو. لم تسأل «الشرق الأوسط» مهيدة عن دخلها، فهي تجني الكثير، ويمكنها جمع 20 يورو من بيع 4 وردات لا يزيد سعرها الحقيق عن يوروين. ومع ذلك لا تتنقل بتاكسي أو سيارة خاصة، ولكن عبر المواصلات العامة، وتحديدا الترام.