السوري سعيد يوسف.. آخر خبراء صيانة آلات العرض السينمائي ببلاد الشام

يتحسر على أيام عز السينما في ستينات وسبعينات القرن الماضي

سعيد يوسف سعيد (أبو محمد) داخل ورشته الخاصة في دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من أن عدد صالات السينما في دمشق وباقي المدن السورية لم يسجل زيادة تذكر خلال السنوات الأخيرة، فإن سعيد يوسف سعيد - أو «أبو محمد» - (70 سنة) ما زال يتلقى عروضا من أصحاب صالات السينما، ليس في سورية فحسب بل في لبنان والأردن أيضا. أما السبب فهو أنه الفني الوحيد في بلاد الشام الذي يجيد صيانة آلات العرض السينمائية القديمة وإصلاحها.

مما يذكر، أن معظم دور السينما التقليدية في سورية لا يزال يعمل بشكل بسيط وبآلات العرض القديمة في عصر التقنيات الرقمية «الديجيتال». أما «أبو محمد» فقد توقف عن تصنيع آلات العرض القديمة الموديلات منذ 35 سنة، بعدما صنّع منها 12 آلة بقياسين 35 مم و16 مم، وكان باع معظمها وبقي منها نموذجان فقط يحتفظ بهما في ورشته بإحدى ضواحي دمشق.

«أبو محمد» قابلته «الشرق الأوسط» وتحدث عن تعلقه بمهنة صيانة آلات العرض السينمائي منذ ستينات القرن الماضي، وتحولت فيما بعد إلى هواية وهوس دائم لديه، فقال: «عملت في مؤسسة السينما السورية لمدة 37 سنة كمشرف تقني فني، وكانت بداياتي من منطقتي القامشلي بأقصى شمال شرقي سورية، حيث حصلت هناك على شهادة ثانوية صناعية في مجال الميكانيكا وتصليح الآلات وصيانتها. وبعدها عملت في مجال صيانة حصّادات ودرّاسات القمح في موسم الحصاد، إلا أن هاجسي الدائم ظل العمل في السينما. وفعلا عملت في سينما فؤاد بمدينة القامشلي كمشغّل لآلات العرض وصيانتها عام 1963. وعام 1965 علمت أن سينما أمية في دمشق تطلب فني عارض سينمائي فتقدّمت لهذه الوظيفة، وكان علي أن أقف أمام لجنة فاحصة برئاسة رئيس نقابة فنيي السينما (لم تعد موجودة حاليا). وسألني أعضاء اللجنة ثلاثة أسئلة فنية أجبت عنها بسهولة».

وتابع سرده «..وهنا أذكر حادثة طريفة حصلت حينذاك، إذ أردت أن أختبر أنا معلومات اللجنة، فسألتهم هل أستطيع أن أسألكم سؤالا فنيا؟ فاستغرب أعضاء اللجنة وقالوا أنت «ولد وتريد أن تسألنا؟!... تفضل اسأل». فسألتهم عن عدد مرات دوران مسنن آلة العرض الذي يحرّك الصورة. فقالوا من أين أتيت لنا بهذا السؤال؟ جاوب أنت … فقلت هذا نظام تشغيل السينما وهو يدور ست دورات، ومن ثم عللت لهم السبب، كما شرحت لهم عدد مرات عرض الصورة حتى تتناسب والصوت. فأعجبتهم معلوماتي الغنية بالسينما.. فنجّحوني في الاختبار وعينت فورا في السينما وأعطوني مباشرة بطاقة خبير ومعلم حرفة».

وأضاف «أبو محمد» في شرح مشواره «..ولهوسي بالسينما وآلات العرض قرّرت عام 1966 أن أخوض تجربة تصنيع هذه الآلات التي كان أصحاب السينما يستوردونها من الخارج، خاصة، أن تلك المرحلة شهدت ولادة عشرات صالات السينما في سورية». وهنا يتذكر «أبو محمد» أول آلة صنعها وهي بعرض 35 مم، قائلا «لقد جهّزت كل مستلزماتها ومكوناتها، وجميعها من تصنيع محلي، وأجريت عليها عمليات الخراطة والتسوية.. ولكن ظلت أمامي مشكلة الصوت. ذلك أنه لم يكن لدينا مضخّمات للصوت. فبحثت في المنزل ووجدت جهاز راديو كبيرا مزودا بصمامات، فقلت لنفسي لماذا لا أستفيد منه في الصوت؟.. وبالفعل وصلت الراديو بالآلة فعمل الصوت. ولشدة سعادتي بولادة الآلة التي صنعتها بنفسي قرّرت أن أستثمرها في البداية لوحدي، فقمت بتشغيلها في مناسبات العطل الأسبوعية والأعياد للجمهور في أماكن كنت أستأجرها، وهي أماكن واسعة مثل المقاهي والبيوت الكبيرة، وأضع شاشة كبيرة وأعرض أفلاما عالمية وعربية من خلالها. وكان أول فيلم عرضته فيلم كاوبوي أميركي وكان لهذه الأفلام جمهورها الكبير، وعندما نجحت التجربة وعلم بعض أصحاب دور السينما بالأمر طلبوا مني آلات جديدة من صنعي، فصنعت بثلاثة قياسات هي 8 و16 و35 مم، لأن معظم الأفلام كانت تأتينا بهذه المقاسات باستثناء فيلمين كانا بمقاس 70 مم وهما «الحرب والسلام» و«كيف ربحنا المنطقة الغربية؟».

ويواصل سعيد يوسف سعيد مشواره مع الذكريات قائلا «..وبقيت أصنع الآلات حتى عام 1973 وكانت الحصيلة 12 آلة بعت منها عشر آلات وبقي منها اثنتان لم تباعا وما زالتا عندي، واحدة بسعر 50 ألف ليرة سورية (نحو ألف دولار أميركي) والثانية ثمنها 300 ألف ليرة وهي أغلى بكثير من الأولى لأنها تعمل بنظام صمام واسع. وهاتان الآلتان لو استوردتا من الخارج فثمنهما سيكون بحدود 12 مليون ليرة سورية؟!».

ثم استطرد «توقف تقريبا الطلب على آلاتي لتوقف حركة فتح صالات سينمائية جديدة حتى بداية الثمانينات، علما بأن بعض أصحاب الصالات هدموا بعضها لتحويل مبانيها إلى مبان تجارية. غير أن صدور القرار الحكومي بمنع هدم الصالات أوقف عملية تراجع عددها واستقر عند عدد بداية ثمانينات القرن الماضي. لكنني، من جهتي، توقفت كليا عن تصنيع الآلات الجديدة واتجهت إلى صيانة ما هو موجود منها حاليا. ولقد استطعت خلال السنوات الأخيرة أن أتأقلم مع التقنيات الجديدة للسينما، ومنها «الديجيتال» و«الأبعاد الثلاثية» («ثري دي»)، فلدي خبرة أيضا في هذا المجال، ولدي استعداد لتشغيل آلات عرض تتبع هذا النظام. والواقع أنه طلب مني ذلك، لا سيما، أن عددا من أصحاب الصالات السينمائية في دمشق راغبون في تحديث صالاتهم ووضع نظام العرض الحديث فيها».

وعن مراحل تصنيع آلة العرض والوقت الذي يستغرق التصنيع، قال «أبو محمد» موضحا «يستغرق وقت تصنيع الآلة نحو الشهر، لأن كل مراحل العمل فيها من قبل كانت تتم يدويا. وفي البداية أحضّر الصندوق، ثم المسننات، وبعدها خلايا الصوت، ولاحقا أضع العدسة العارضة والمصباح الخاص بها».

وحول توريث مهنته لابنه قال «عمل معي ابني لفترة وحاولت تعليمه التصنيع وصيانة آلات العرض السينمائي، لكنه لاحظ أنه لا مستقبل لهذه المهنة، فقرر تركي وسافر إلى السويد حيث يعمل اليوم في مجال هندسة الأقمار الاصطناعية».

و«أبو محمد»، الذي يتحسّر على أيام عز السينما، ما زال يحاول العمل مع ما تبقى من هذه الصالات في سورية، وهو يطلب أيضا من قبل أصحاب الصالات في لبنان والأردن. وعلى حد قوله «أحاول أحيانا أن أطوّر بعضها إذا طاوعتني الآلة، وحاليا أعمل في ورشتي على تصنيع المنظِّمات الكهربائية وصيانة الآلات الإلكترونية وأجهزة آلات الصوت الديجيتال».