حركة فتح الله غولن: احترام غربي.. وعلمانيو تركيا يتهمونها بالسعي إلى السلطة

تمتلك شبكة مدارس لتعليم القيم الإسلامية في 110 دول وأصولا بالمليارات.. ووسائل إعلام في تركيا وخارجها

TT

في شمال شرقي بنسلفانيا حيث تتقاطع المزارع الخصبة مع تلال جبال بوكونو الجميلة، يعيش فتح الله غولن، أحد أكثر الشخصيات نفوذا وأكثرها إثارة للجدل في تركيا، في هدوء شديد.

وصفه المعجبون بغولن، الواعظ المسلم المعتدل، والمؤلف والمعلم الذي يحظى بأتباع كثيرين، بتوقير بالغ.

ويقول جون إسبوزيتو، الأستاذ بجامعة جورج تاون الذي درس لغولن، إنه إذا أراد أن يقارن بين غولن وشخصية عامة أخرى فليس هناك سوي ديلاي لاما. يدور حديث غولن عن السلام والتسامح وقوة العلاقات الأميركية التركية، وأهمية اقتصاد السوق الحرة. وعندما يتحدث الرجل عن أنه لا وجود في الإسلام للإرهاب، كما فعل خلال المقابلة النادرة التي أجريت معه أخيرا، يتلقى المسؤولون الغربيون حديثه بارتياح بالغ.

وقد تحدث وزيرا الخارجية السابقان، مادلين أولبرايت وجيمس بيكر في فعاليات أقامتها جماعة غولن ممتدحين دفاعه عن الديمقراطية والحوار. لكن منتقديه لديهم وجهة نظر أخرى تجاهه، فيقولون إن أتباع غولن من القوميين في تركيا يسعون إلى تولي المناصب القيادية في تركيا، وربما يعملون بأجندة سرية. وتخضع تركيا، التي تبنت العلمانية ردحا طويلا من الزمن، لسيطرة حكومة ذات توجهات إسلامية، وتخطو خطوات تجاه لعب دور عالمي أكبر، وفرض نفسها كعامل رئيسي في التعامل مع إسرائيل والعراق وإيران، وهو ما أدى إلى تركيز الانتباه على تزايد التوترات الداخلية حول الدين على المستوى الشعبي.

يرى البعض في غولن جزءا من الانتقادات البطيئة والقوية في الوقت ذاته ضد علمنة تركيا لما يقرب من قرن، على يد كمال أتاتورك التي يراها المسلمون ضربة عنيفة للقيم التقليدية، في الوقت الذي يراها فيه العلمانيون ضرورة من أجل التحديث. ويسعى غولن من خلال نهجه إلى المزج بين التقليدي والحديث.

يعيش غولن مع ما يقرب من عشرة من مناصريه في منطقة ريفية، 25 فدانا أو ربما 10 هكتارات من الأراضي أقيم بها منزل للزائرين وقاعة للاجتماعات وبركة مائية تمتلئ بسمك الشبوط الأحمر، نادرا ما يغادر غولن المعتل الصحة هذه البقعة الريفية.

خلال حديثه على طاولة الغداء التي تكونت من طعام تركي تقليدي، لم يبد غولن، المتواضع وابن أحد أئمة المدن الصغيرة، متمتعا بهذا الكم الكبير من التأييد. لكن الرجل الذي درس القرآن في الخامسة من العمر، ومارس الخطابة في الرابعة عشرة يحظى بالكثير من الأتباع، وقد ألهم إنشاء شبكة عالمية من المدارس والمستشفيات والشركات. وبنك إسلامي، يمتلك أصولا بمليارات الدولارات، وكذلك الكثير من الصحف، منها صحيفة «الزمان» الأوسع انتشارا في تركيا، ومحطة تلفزيونية (إي بي آر يو تي في) التي تبث برامجها من سومرست في نيوجيرسي.

كل هذه الأمور تمثل جزءا مما يسميه الآخرون حركة غولن، لكن زعيم هذه الحركة المتواضع أشار إليها على أنها حركة تطوعية، وقال إنه لم يحصل منها على منفعة شخصية، وأن ممتلكاته ليست سوى لحاف وملاءة سرير وبعض الكتب. وقال إنه لا يعلم عدد الدول التي تنشط فيها حركته، ولا عدد المدرسين والطلبة المنضمين إليها.

وعندما سئل عن العمل الذي يقوم به أتباعه، قال: «أعتقد أن تسمية الحركة بحركة فتح الله غولن ليست التسمية الصائبة، إذ يمثل ذلك ازدراء للكثير من الأفراد الذين نذروا أنفسهم للقيام بهذه الأنشطة، ودوري في هذه الحركة محدود جدا، ولا توجد قيادة ولا مركز لها، ولا ولاء لمركز، ولا وراثة فيها. لكن آخرين يقولون إن هناك أكثر من 1000 مدرسة في أكثر من 110 دولة في العالم، وأن عدد الأفراد بها ربما يصل إلى 5 ملايين شخص». ويرأس إمري سيليك، الأسترالي ذو الأصول التركية، منتدي رومي، المعهد التابع لغولن في واشنطن، الذي زار مؤخرا أكثر من مدرسة من المدارس التابعة للحركة في جزيرة زنزيبار، الذي عبر عن إمكانية افتتاح المزيد من المدارس في القارة الأفريقية. ويدعم هذه المدارس الكثير من رجال الأعمال المسلمين.

هناك الكثير من هذه المدارس في الولايات المتحدة، وتنتشر حول العام، حتى إن لها توجدا في بورما. تقوم هذه المدارس على تعليم القيم الإسلامية، لكنها تختلف عن نظام المدارس الدينية في أنها تقوم على تدريس المناهج التعليمية الرسمية للدولة الموجودة فيها، والتأكيد على العلوم الحديثة والتكنولوجيا. وتتميز هذه المدارس بجودة التعليم.

وقال سيليك، الذي تعلم علم الكومبيوتر: «ألهم غولن الكثير من الأفراد مثلي، هم الجيل الثاني من الأتراك الأستراليين الذين تأثروا بأفكاره». إلا أنه في أواخر تسعينات القرن الماضي، تصادمت حركة غولن مع الحكومة التركية العلمانية السابقة. وبعد توجهه إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، حيث يعاني من مرض السكري ومشكلات في القلب، بقي مقيما بها بعدما اتهمه مدعٍ تركي بالتحريض على الإطاحة بالنظام العلماني.

وظهر شريط مصور لغولن وهو يخطب في أنصاره داعيا إياهم إلى «التسلل في هدوء» إلى داخل مؤسسات الدولة «حتى تصلوا إلى مراكز السلطة». لكن غولن أصر على أن كلماته جرى التلاعب بها، وفي نهاية الأمر أسقط الاتهام عنه. يرى محللون أن بعض المسؤولين في الحكومة الحالية المتوددة إلى الحكومات المسلمة من أنصار غولن، وكذلك الحال مع الكثير من ضباط الشرطة، حسبما ذكر إصدار «جينز إسلاميك أفيرز» الموثوق به، الذي أضاف أن نفوذه يمتد إلى جناح الاستخبارات الداخلية القوي داخل جهاز الشرطة. ولا شك أن هذه القضية تنطوي على حساسية بالغة في وقت تحولت أنظار الأتراك إلى فضائح التنصت على الاتصالات السلكية أخيرا.

في تركيا، حيث تتميز الحركة بالقوة، يبدي أنصار غولن ولاء بالغا تجاهه، بجانب حجاب من السرية يحيط بنشاطات وقيادة الهيكل الهرمي للحركة. ويزعم خصوم غولن أن أنصاره داخل تركيا بعد أن عملوا بجد حتى شقوا طريقهم ليس نحو صفوف الشرطة فحسب، وإنما كذلك السلطة القضائية، أصبحوا يشكلون القوة الدافعة وراء قضية تنظرها المحكمة ضد أعلى خصوم الحكومة ذات الميول الإسلامية صوتا. في المقابل، ينفي أنصار غولن هذا الاتهام. في هذا الصدد، قال حقان يافوز، بروفسور العلوم السياسية بجامعة أوتاه، الذي تعرض للحركة في كتاباته: «هذا النمط من الإسلام لا يرغب في خلق مساحات حمائية للضعفاء والمهمشين، وإنما يسعى للسيطرة والوصول إلى السلطة مثل «أوبوس داي». جدير بالذكر أن «أوبوس داي» منظمة كاثوليكية محافظة متشددة. إلا أن أحد المراقبين طرح تفسيرا أكثر إيجابية، حيث قال المبجل توماس ميشيل، وهو قس من طائفة اليسوعية وكبير مستشاري الشؤون الإسلامية السابق في الفاتيكان، ويعيش حاليا في أنقرة: «تعد أكاديمية الشرطة واحدة من أفضل وأعرق المؤسسات التعليمية في تركيا». وأضاف أنه نظرا لأن خريجي مدرسة غولن يبلون باستمرار بلاء حسنا في امتحانات الالتحاق فإن «عددا كبيرا منهم يجري قبوله».

واستطرد موضحا أن هؤلاء الأفراد عادة ما يكونون «متحمسين وأذكياء وصحبتهم مبهجة، وليسوا متشددين أو غريبي الأطوار على الإطلاق».

من ناحيته، شدد غولن على أن حركته تبقي على نفسها على مسافة متكافئة من كل الحكومات التركية المتعاقبة، ولا ترمي للوصول إلى أي منصب، وكذلك الحال في تعاملها مع الحكومات الأجنبية. ومع ذلك، يعتقد بعض المحللين أن مسؤولين أميركيين ساندوا، ضمنيا على الأقل، الحركة كقوة معتدلة في مناطق، مثل الأجزاء التركية داخل آسيا الوسطى، حيث أرسل غولن مئات المدرسين المتطوعين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. في هذا السياق، قالت هيلين روز إيبو، عالمة اجتماع في جامعة هوستون تولت دراسة الحركة: «وفرت هذه المدارس بدائل أمام الشباب بحيث لا ينضمون إلى الجماعات الإرهابية». وأضافت أن مسؤولا إداريا في جامعة الإيمان بإسطنبول المرتبطة بغولن أخبرها أن غولن رفض بشدة قبول منح من السعودية «لأن هذا سيجري تفسيره باعتباره دعما من قبل الحكومة السعودية».

وفي وقت نددت فيه الحكومة التركية بإسرائيل بشدة، بسبب الصدام العنيف الذي وقع مع أسطول مساعدات متجه إلى غزة، ألقى غولن باللوم على منظمي القافلة، موضحا أنه كان يتعين عليهم السعي مسبقا للحصول على موافقة إسرائيل، بدلا من «تحدي السلطة». وأعرب عن اعتقاده في رسالة عبر البريد الالكتروني أن «الدولة الأسوأ والحكومة الأسوأ أفضل بكثير من حالة انهيار الدولة والفوضى». وأوضح غولن أنه في الوقت الذي يبدي أحيانا بعض التأييد «لإجراءات إيجابية» من قبل حكومات تركية، فإن «هذا لا يعني أننا بأي حال من الأحوال نصدر توصيات إليها أو نتصرف تحت وطأة نفوذها». واستطرد أنه رغم ذلك لا يمكن لأي حزب حاكم، ديني أو علماني، «تجاهل الحقائق القائمة في تركيا». وأضاف خلال تعليقات ترجمها أحد مساعديه: «هناك أعداد ضخمة تمارس الإسلام، وتعج المساجد بالمصلين كل يوم». في الوقت ذاته، أوضح أن أي حكومة يتعين عليها أن تأخذ في اعتبارها الأقليات الدينية، سواء أكانوا مسيحيين نسطوريين أو مسيحيين بروتستانتيين أو يهودا. منذ عام 1999، أدت الحياة السياسية التركية المحتدمة وتردي أحواله الصحية إلى تقييد غولن وإبقائه داخل المجمع الذي يقيم به في بنسلفانيا، الذي توجد حراسة مستمرة على بوابته.

داخل غرفة تعج بالأعمال الفنية والتحف التركية، يعكف غولن على القراءة بعمق لأعمال متنوعة؛ من شكسبير إلى كانت إلى الشعراء الصوفيين. وعندما تسمح حالته الصحية، يظهر كل يومين أو ثلاثة للرد على تساؤلات الزوار داخل غرفة مجاورة كبيرة. وتجلس النساء في مكان مرتفع مخفي عن الأنظار، حيث ينصتن لحديثه من دون الاختلاط بالرجال. وقال: «داخل الولايات المتحدة، كنت آمل ألا أتعرض لإزعاج أو ضرر من جانب من يحملون أيديولوجيات راديكالية من تركيا وأفغانستان وباكستان، أو بعض الدول الأخرى. إنني ضيف على أميركا».

* خدمة »نيويورك تايمز»