مستشفيات العراق تضيق بالمرضى النفسيين.. وهناك 100 اختصاصي فقط

خبير نفسي: العنف ترك بصمة على كل مواطن في بلدنا

خبير نفسي يفحص مريضة في أحد مستشفيات بغداد (رويترز)
TT

جلست أسماء شاكر فوق بطانية مرسوم عليها نمر داخل مستشفى طب نفسي في مدينة بغداد، وكانت عيناها تغالبان النوم، فقد بدأ العقار يؤتي مفعوله، وتراجعت مشاعر الخوف، وتستطيع النوم حاليا. ونادرا ما تنام أسماء من دون أخذ الدواء.

لقد تعرض منزلها لعمليات تفجير 3 مرات خلال 5 أعوام، وكانت آخر عملية تفجير قبل أسبوعين فقط. وفقد الزوج إحدى قدميه في إحدى المرات، وأصبح ابنها، الذي يبلغ من العمر 12 عاما، شاحبا، ويرتجف الصبي لمجرد التفكير في مغادرة المنزل. كما تدين العائلة بآلاف الدولارات، وتعيش أسماء حاليا في خوف دائم.

«الضغوط كبيرة للغاية»، هكذا قالت أسماء من داخل مستشفى ابن رشد، وهو مستشفى متخصص في الطب النفسي وسط بغداد. وأضافت «وجدت جيراني على الأرض، والأطفال قتلى على الأرض، أشعر بالرعب الشديد، أنا مرعوبة جدا».

وعلى الرغم من أن انسحاب القوات الأميركية يشير إلى تراجع في وتيرة الحرب، تزداد أعداد العراقيين الذين يسعون للعلاج من أمراض نفسية تسببت فيها صدمات، وبات القطاع الطبي عاجزا عن الوفاء بالاحتياجات.

ويوجد في مختلف أنحاء العراق 100 طبيب نفسي يقومون بتقديم الخدمات لنحو 30 مليون شخص، حسب ما تشير إليه رابطة الطب النفسي العراقية. ويعتمد الكثيرون على أنفسهم في العلاج. ويعد «الأرتين» أكثر عقار يؤخذ بصورة مبالغ فيها، ويعرف هذا العقار بصورة عامة باسم «تريكسيفنيديل»، ولكنه يعرف داخل العراق باسم «حبوب الشجاعة»، ويحتوي على مادة مسكنة.

وشهد مستشفى الرشاد، أكبر مؤسسة صحية نفسية طويلة الأجل، زيادة في أعداد المرضى نسبتها 10 في المائة، ويقول الأطباء إنهم يضطرون إلى رفض استقبال مواطنين داخل المستشفى الممول حكوميا بسبب تكدس المرضى فيه.

وبالنسبة إلى أسماء، وعشرات العراقيين الآخرين، فإن كل شارع يذكر بما كان وما هو كائن وما يحتمل أن يكون من جديد، إذ يذكر كل شارع بأناس ينظرون بحذر إلى جثث ملقاة في الشوارع سقطوا قتلى في عمليات قتل متعمد بين الطوائف المختلفة خلال الحرب الطائفية. وتذكر الشوارع أيضا بغارات الجيش الأميركي وغارات الجيش العراقي وعمليات التفجير التي يقوم بها متمردون وعمليات اغتيال واستجواب الميليشيات. وقد تراجعت أعمال العنف في الوقت الحالي إلى مستوى منخفض، ولكنه لا يزال مستوى مخيفا، ويسعى الكثير من العراقيين بجد من أجل التعامل مع صدمات خلفتها أحداث الماضي وغموض يسيطر على المستقبل.

وخلال العام الماضي، بدأت وزارة الصحة العراقية إدراج العلاج النفسي في مستشفيات الرعاية الأولية لعلاج صدمات يعاني منها مواطنون، وذلك حسب ما قاله نعمة الحميدي، الأمين العام لرابطة الطب النفسي. وأضاف: «ترتبط أعمال العنف والاعتداء والاضطرابات داخل العراق بصورة مباشرة بالزيادة في المشكلات النفسية. ويوجد وضع استثنائي خطير لا يمكن لمجتمع آخر أن يستوعبه. وقد ترك ذلك بصمة على كل مواطن في بلدنا».

وفي صبيحة أحد الأيام القريبة، جلس الحميدي داخل مركز تأهيل بمستشفى الرشاد، وقد انتشرت على الحوائط رسومات رسمها المرضى. وأنشئ المستشفى قبل أكثر من 50 عاما، ويلوح في الأفق داخل منطقة مهجورة خارج مدينة الصدر الفقيرة. ويبدو المستشفى مختلفا عن مبان أخرى طواها النسيان وتعاني من الإهمال. ويقول أطباء إن نحو 80 في المائة من العائلات ينسون أقاربهم بمجرد أن يرسلوهم إلى المستشفى. وعندما يكون المرضى جاهزين للاندماج مجددا في المجتمع، لا يجدون مكانا يذهبون إليه.

وعلى طاولة عمل طويلة، جلس الحميدي مع رجال ونساء يتغنون ويلقون الشعر. وغالبا ما تتناول الأغاني مشاعر الحزن والهجران والخوف. وانتحب البعض بينما كانوا يتناولون الصودا والكعك المحلى. ولم يعد يحس المرضى بالزمان أو المكان، حيث يعيشون هنا منذ عقود. ويتابع، 8 أطباء، من بينهم حميدي، في مقابل 1300 مريض. ولا يوجد مكان لمرضى آخرين، وتحتاج المنشأة إلى أكثر من 10 أطباء نفسيين إضافيين لأداء العمل على النحو المطلوب، حسب ما يقوله حميدي.

أخذت فتاة صغيرة تدعى فاطمة تصرخ في حزن بكلمات شاعر من القرن الحادي عشر. وكانت عائلتها قد أرسلت بها إلى المستشفى عندما مات والدها، بعد أن أجهدها مرضها النفسي. ويقول الحميدي: «أحاول أن أقوي عزيمتهم بصورة إيجابية وأن أوفر لهم وسائل تمكنهم من العودة للاندماج في المجتمع».

وبينما كان الحميدي يمشي عبر العنابر ذات الحوائط البيضاء القذرة، علا صراخ بعض النسوة. وتوسلت إحداهن: «أريد العودة إلى المنزل»، وسالت الدموع من عينيها. وطلب الحميدي منها أن «تغني له أغنية»، فجفت الدموع، وبدأت تغني. ولم تستطع الستائر ذات اللون القرنفلي وأزهار الزينة إخفاء الحزن الذي يخيم على المكان، فالقضبان المعدنية على كل باب، وأجهزة التلفزيون في صناديق، والنساء يحدقن في النوافذ، وينتظرن التغيير.

ويعاني ضياء حردان (38 عاما) من هوس بالاكتئاب، ويأتي إلى المستشفى لوقت قصير ليعزف الموسيقى للمرضى ويحصل على علاجه. ويسمع الناس في الشارع يتهامسون عن مرضه، ويرى في نظرات المارة القلق خوفا من أن يصابوا بمثل ما يعاني منه، مثلما يعتقد الكثيرون هنا.

ودائما ما كان حردان عرضة للاكتئاب، ولكن تساعده موسيقاه. وعندما يغلبه الحزن، يأخذ العود ويدفن أحزانه في أغانيه. ولكن بعد الغزو الأميركي والحرب الأهلية والأعمال الطائفية المسلحة التي تلت، توقف عن مخالطة الناس ونادرا ما يغادر منزله، حسب ما قاله.

ويسيطر جيش المهدي، وهو ميليشيا شيعية تحظر الموسيقى، على شوارع الحي الشيعي الفقير الذي يعيش فيه. ويخشى حردان من أن يُقتل أو يعاقب على الموسيقى التي يتغنى بها، مثلما حدث مع الكثيرين. ويقول إنه بسبب ذلك اضطر إلى التخلص من الأداة الموسيقية، الشيء الوحيد الذي يفهمه. وفي الوقت الحالي، وعلى الرغم من التراجع في أعمال العنف، فإن الأماكن الوحيدة التي يعزف فيها الموسيقى هي المستشفى وغرفة معيشته مع زميل له.