«السنجقدار».. منطقة دمشقية عريقة اشتهرت بالمطاعم والفنادق وكانت لفترة مركزا لإصدار الصحف والمجلات

أخذت تسميتها من الراية التي كانت ترافق موكب الحج الشامي

بائع التين المجفف في سوق السنجقدار بدمشق
TT

في منطقة تتوسط العاصمة السورية دمشق، تميزت بأبنيتها وحركتها التجارية النشطة في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقع زقاق وسوق «السنجقدار». ولا بد لمن يتجول في ساحة المرجة الشهيرة، المعروفة في سورية بلقب «عاصمة العاصمة» و«الساحة التي لا تنام»، ويريد الانتقال منها إلى سوق الحميدية الشهيرة أو إلى قلعة دمشق ومنهما إلى حارات دمشق القديمة، من عبور زقاق «السنجقدار» بأبنيته التراثية وشرفاته المتقابلة والمتجاورة التي تظلل الشارع وتحمي العابر من أمطار الشتاء وشمس الصيف الساطعة.

كذلك، لا بد لأي زائر يريد أن ينام في فندق - أو «لوكندة»، كما تعرّفه العامة - أو يأكل في مطاعم دمشق البسيطة ويعيش طقس تناول الطعام على نمط النصف الأول من القرن العشرين فليس أمامه سوى مكان واحد هو «السنجقدار». ففي هذا الزقاق – السوق، تنتشر عشرات الفنادق والمطاعم التي تشكل «حلقة وصل» تشهد على انتقال دمشق من عصر استقبال زوّارها ونومهم في الخانات التي اشتهرت في القرون الماضية.. إلى عصر الفنادق العصرية التي بنيت على النمط الأوروبي وجهّزت بالخدمات العصرية في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقف هذا الزقاق – السوق، كذلك، جسرا بين حقبة تناول الناس الطعام مجانا في سواء في التكايا العثمانية أو المضافات، حيث كان يحرص وجهاء المدينة في الأحياء والحارات العريقة كالعمارة والميدان والشاغور والقنوات، على تقديم الوجبات اليومية كشكل من أشكال الكرم ودليل من دلائل الوجاهة والزعامة.. إلى تناول الطعام في المطاعم الحديثة. ولكن يجمع هذا عصرية لوازم المطعم الحديث وموجوداته مع المحافظة على أنماط وعادات تقديم الطعام على الطريقة الدمشقية، والتفنن بالأكلات الدمشقية المعروفة مثل «التسقية» و«الشاكرية» و«الباشا وعساكره» و«القوزي» و«المقلوبة» وغيرها.. مع تقديم كأس الشاي بعد الانتهاء من تناول الطعام، وأيضا، وبالطريقة الدمشقية التقليدية حيث يملأ نصف الكأس بالماء المغلي ليضاف إليه خمير الشاي الموضوع دائما على الموقد في مطبخ المطعم.

ثم إن «السنجقدار» بدكاكينه الكثيرة الواسعة أحيانا، والضيقة في أماكن أخرى، هو مقصد الباحثين عن الحلويات الدمشقية المجففة الشهيرة المحضّرة من أشهى ثمار الغوطة. وكما توجد في «السنجقدار»، كحال معظم أسواق دمشق القديمة والحديثة، محلات تبيع الشرقيات والتراثيات كالنحاسيات والزجاجيات والفخاريات، فإن كثرة من المحلات هنا تخصّصت في بيع المشمش المجفف والتين المجفف والعنب الزبيب وحلويات الضيافة البسيطة (النوغا) وغيرها من المجففات والسكريات.

أحمد العشّي، يدير محلا ورثه عن والده لبيع المجففات والشوكولاته في «السنجقدار»، ومع أنه فقط في أواخر العقد الخامس من العمر، تراه يلم بالشيء الكثير عن تاريخ زقاق وسوق «السنجقدار». وهو يبدأ شرحه مفسرا أصل تسمية السوق، فيقول إنها «تسمية تركية، فكلمة السنجق تعني الراية، فهو مركز مكان الراية، وأطلق عليه الاسم من خلال محمل الحج الدمشقي إذ كانت الراية تحمل إلى جانب المحمل عند خروج الناس لأداء فريضة الحج في العهد العثماني في تقاليد معروفة يشرف عليها والي دمشق العثماني».

ويشير أحمد إلى جانب من الشارع قائلا إن والده حدّثه عن أن في هذه المنطقة عرفت انطلاق خط الترامواي (الترام) بين ساحة المرجة وحي الميدان جنوبا «إلا أن الترامواي غاب في ستينات القرن المنصرم وغابت سكته الشهيرة لتنطمر تحت اسفلت الشارع». ويتابع: «لقد تعرّض القسم الجنوبي من السوق لحريق كبير عام 1928 مما أدى لتدمير الكثير من أبنيتها وفنادقها، فأعيد تنظيم هذا القسم وشقت طرق جديدة فيه وأطلق عليه اسم شارع الفرات». ويقدّر أحمد عدد محلات «السنجقدار» ودكاكينه حاليا بنحو المائتين تتخصص في معظمها بالحلويات المجففة، مع وجود محلات لبيع الألبسة والحقائب، وخصوصا في الجهة المقابلة للقلعة. كما لا تزال الفنادق تنتشر بكثرة في «السنجقدار» وتستقطب الزبائن متوسطي الحال والفقراء لأن أسعار المبيت فيها رخيصة ولا تخضع للتصنيف السياحي، مع الإشارة إلى أن معظم الفنادق التي وجدت في «السنجقدار» منذ تأسيس السوق والزقاق قبل نحو مائة سنة ما زالت قائمة، باستثناء ما احترق منها في حريق 1928، منها «لوكندة سنترال» و«دار السرور» التي كان يمتلكها الحاج داوود آغا شيخاني. ومن فنادق «السنجقدار» التي ذكرها «دليل دمشق لعام 1949» هناك: «قصر رغدان» و«الفندق الأموي» و«قصر عابدين الكبير» و«الاتحاد العربي» و«الفيحاء» و«الجامعة العربية» و«قصر الزعفران الكبير» و«الأمراء» و«الملكي» وغيرها. أما عن أقدم المطاعم الباقية في الزقاق فمنها «الادلبي» و«علوان».

من ناحية ثانية، استقطبت المنطقة المتميزة بأبنيتها المتعددة الطوابق والمبنية بطراز معماري جميل عددا كبيرا من المحامين والأطباء والمهندسين الذين فتحوا مكاتبهم فيها نظرا إلى ما تشهده من حركة على مدار اليوم. ولكن الأبرز هنا، كما يذكر المؤرخون، أن أبنية «السنجقدار» جذبت أصحاب الصحف والمجلات التي كانت تصدر في دمشق في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم قبل توقف صدورها في الستينات. وقد كانت مقراتها ومكاتبها في هذه الأبنية ومن أشهرها مجلة «الدنيا» للصحافي الدمشقي الراحل عبد الغني العطري، ومجلة «الفن والراديو» لعثمان شحرور وصحيفة «النضال» للدكتور سامي كبارة وصحيفة «العالم» للمهندس موفق الميداني وغيرها.

وفي منطقة «السنجقدار»، لموقعها الممتاز قرب المرجة ومناطق الأسواق القديمة، قامت منذ القدم عدد كبير من الأبنية التاريخية، ولا سيما الحمّامات، بعضها ما عاد موجودا مثل حمّام «الراس»، الذي بني عام 1564 وهدم عام 1974، وحمّام «الناصري» وحمّام «رامي». وفي المقابل، لا يزال قائما من هذه الأبنية التاريخية جامع السنجقدار الجميل الذي بناه في العهد المملوكي نائب السلطنة الأمير سيف الدين ارغون شاه الناصري، وأخذ في البداية تسمية «ارغون شاه»، ثم عرف باسم «جامع الحشر».. ليستقر أخيرا على تسمية جامع «السنجقدار».