الملكة فريدة.. رحلة العرش والحياة في كتاب جديد

كانت تحتفظ في إصبعها بخاتم الملك ودبلة الزواج حتى وفاتها

الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم مع الملكة فريدة («الشرق الأوسط»)
TT

من بين أفراد الأسرة العلوية لا يختلف المصريون على حبهم للملكة الراحلة فريدة.. فمن جهة اعتبروا فترة اقترانها بالملك فاروق هي عصره الذهبي.. وتزامن طلاقها منه مع زيادة التذمر ناحيته.. ومن جهة أخرى نالت فريدة قدرا كبيرا من التعاطف لدراما علاقتها بالملك فاروق وإصرارها على العيش من نتاج ريشتها ورسوماتها، ومرورها بفترات عصيبة فقدت خلالها العرش والزوج، بينما تشتتت بناتها في أوروبا.

بعد 22 عاما من وفاتها لا تزال ملكة مصر السابقة تثير الجدل.. ففي كتاب صدر بالقاهرة للكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم كشفت فيه عن أسرار جديدة تداعب فضول هواة النوستالجيا ومحبي سيرة فريدة ومؤرخي مصر الحديثة.

عبد الكريم التي رافقت فريدة في آخر خمس سنوات فجرت مفاجأة مدوية بإعلانها أن ملكة مصر الراحلة عادت للملك فاروق مرة أخرى.. وظلت زوجته حتى وفاته.

وتبرر عبد الكريم إخفاء خبر عودة فريدة لفاروق بقولها: «هذا الخبر لا يعتبر سرا.. إنما هي - جلالة الملكة فريدة - التي لم تشأ إذاعته منذ حدوثه وأثناء إقامتها بمصر؛ خشية أن يعرقل ذلك وجودها في البلد الذي عشقته طوال حياتها، أي مصر.. لكنهما كانا يلتقيان، وهذا يدل على أن الحب القديم بينهما لم تطفئ جذوته الأيام، وأنها ظلت هي الأثيرة لديه وهو الأثير لديها؛ أي كان عشقا متبادلا قويا.. وهذا يفسر لماذا كانت ترفض الارتباط بأي شخص كما كان يفسر بكاءها الشديد، حينما كنا نزور معا مقبرته.

وتتابع: «هذا الخبر لم يعرف به إلا أنا وابنتها الكبرى فريال، ولما رأيت أنه لم يعد سرا وإنما أصبح خبرا مهما يجب أن يعلم الكل به، أردت كتابته؛ لأنه يستحق أن ينشر.. كانت تحتفظ في إصبعها بخاتم الملك ودبلة الزواج حتى وفاتها.. إن فريدة الملكة التي تركت التاج والعرش بكامل إرادتها، ومن أجل كرامتها هي نفسها فريدة التي عادت إلى الرجل الذي أحبته بلا تاج وبلا عرش وبلا قوة.. كانت فريدة هي الزوجة التي عادت للزوج وهو في محنته، تسانده وتمنحه الحنان والصبر والقوة من قلبها الواسع المليء بالتسامح والرحمة».

ويضم الكتاب مجموعة من الوثائق والصور في مجملها تلخص رحلة معاناة فريدة مع العرش والحياة، وأغلب الصور التي احتواها الكتاب تنشر للمرة الأولى وهي من الأرشيف الشخصي للمؤلفة، إضافة إلى بورتريهات عديدة رسمها فنانون للملكة فريدة ومنهم عبد العال ومحمد الطراوي تتجاور مع صور اللوحات التي رسمتها الملكة حيث لا تزال المؤلفة تحتفظ بأفلام صور اللوحات التي كانت تؤرشفها الملكة فريدة معرضا بمعرض.

من بين وثائق الكتاب النادرة شهادة إشهار طلاق الملكة فريدة من الملك فاروق، وخطاب موجه من الملكة فريدة إلى السيدة سوزان مبارك قرينة الرئيس المصري محمد حسني مبارك.

كما يضم الكتاب بين طياته مائة وخمسين صورة للملكة فريدة والملك فاروق، وعائلتها وبناتها وأحفادها والمحيطين بها من المعارف وأصدقاء الفن والحياة والملكية والسياسة.

استعرضت مؤلفة الكتاب العديد من محن فريدة سواء مع المرض أو الغربة، كما أبرزت سماتها كمثقفة رفيعة ذات روح صافية، فتقول: «كانت تزعجها الأصوات العالية والكلمات النابية والموسيقى الرخيصة والأغنيات القبيحة والألوان الصاخبة.. تحب النظام والدقة والانضباط إلى حد الوسوسة، تحب الموسيقى الكلاسيكية والألوان الهادئة والأدب والاحتشام، ذات حس مرهف وذوق رفيع وثقافة وذكاء حاد وشفافية وحدس لا يخيب.. بل لديها موهبة الكشف - وهو معنى أعمق من الشفافية بلغة الصوفية.. ويعني أنها بسهولة تدرك ما بنفس أو قلب من أمامها سواء خيرا أم شرا - وكانت دائما ما تحذرني من بعض الأشخاص دون أن تعرفهم بل بمجرد الرؤية، وكانت تحدس من الطيب ومن الخبيث ممن يقابلونها. تحب الأصالة والبساطة وكل ما هو أصيل وبسيط.. تمقت الكذب والنفاق والخوض في السير، قليلة الثقة بالناس، ذات نزعة صوفية عميقة وزهد وتجرد وإيمان راسخ بالله خالق المعجزات».

أسرار فريدة لم تفقد جاذبيتها وإثارتها بعد، فقد كشف الكتاب عن تعامل ملكة مصر السابقة مع السحر وإيمانها التام بأن الملكة نازلي والدة زوجها دمرت حياتها عبر السحر.. فتحكي المؤلفة في فصل كامل تجربتها مع السحر، وتقول في إحدى الفقرات: «كانت تؤمن بأن هناك قوى خفية تحيطها بالشؤم وتسلبها السعادة. كانت دائما تردد: نازلي كانت تكرهني واستعملت السحر كي تعذبني في كل مراحل حياتي فحرمتني أعز ما لدي.. زوجي ثم أولادي، ثم راحتي واستقراري وأخيرا صحتي.. هكذا تطاردني اللعنة الخفية أينما حللت. هكذا كانت عقيدتها الراسخة.. السحر وكيفية التغلب بأي وسيلة على شر هذا السحر، بواسطة القرآن الكريم، وكتب الدين، ثم بأعمال بعض من يستعينون بالجان - وكانت تسجل أحاسيسها واعتقاداتها في كثير من لوحاتها خصوصا في المرحلة الأخيرة.. وجوه مخيفة: دماء وأصابع وأظافر وخطوط رهيبة داكنة وعيون مذعورة».

وتحكي عبد الكريم عدة مواقف تبين ولع فريدة بعالم السحر فتقول: «ذات صباح بادرتني هاتفيا في ذعر حقيقي: (الحقيني.. ماذا حدث؟ تعالي.. وجدتها تمد لي يدها بخاتم ذهبي كان ملازما لإصبعها عليه التاج الملكي وقد انكسر من باطن اليد ونقصت منه قطعة بمقدار ملليمتر).. فسري ذلك.. صحوت من النوم وجدته في إصبعي بهذا المنظر - والأدهى أن هناك قطعة ناقصة منه يعني كسر غير عادي بفعل غير عادي، وطلبت مني الاتصال بالدكتور مصطفى محمود فقد يفسر هذه الأمور الخفية. ثم الذهاب إلى أحد الصاغة وسؤاله عن خواص الذهب وكيف يمكن أن يحدث هذا - وضحك الدكتور مصطفى محمود وأجابها متفكها: (مفيش عفاريت أثناء نومك يمكن أن تفعل هذا بالخاتم لكن إذا كان ده خاتم الملك والملك لله وحده فأحسن شيء هو التبرع به للمسجد أي لله). ولم يعجبها كلامه ولم تفرط في الخاتم.. وقال الصائغ: ربما استعملت مادة أثناء الرسم أثرت على الذهب فانكسر، ولكنها تصر: (والقطعة المفقودة؟) ولم تقتنع وخلعت الخاتم واحتفظت به في علبة خاصة. وفى الصعيد ذهبنا إلى أحد جهابذة علم الأرواح والاتصال بالجان وفك طلاسم السحر وقضينا يوما بأكمله في أحد الأبنية النوبية القديمة وهو يقرأ لها القرآن والرقية ويطلق البخور لمحو تلك اللعنة التي سطرتها نازلي ودفنتها في قبر مجهول منذ خمسين عاما، ثم أخذت معها أحجبة كثيرة للاستحمام ببعضها والاحتفاظ بالبعض الآخر كما أمرها الرجل، وحين وصلنا في المساء طلبتني مرتاعة وهي تقول همسا: هل علمت بما حدث؟ لقد اختفى الحجاب وسط المياه التي أعددتها للاستحمام بل تبعثرت المياه وسالت على الأرض ولم أستطع الاستحمام قط! إن السحر أقوى من أن ننتصر عليه».

لكن كان لدى فريدة وسيلة أخرى للتغلب على شحنات الرعب المتولدة عن اعتقادها بالسحر فتقول المؤلفة: «في ذلك المساء طفقنا نحكي عن الأرواح وحكايات عن السحر.. ولم تنم، في الصباح قالت لي: عندي مفاجأة، ورفعت غطاء أبيض في غرفة نومها من فوق حاجز أمام الشباك فإذا بلوحة صاخبة الألوان مطموسة المعالم تطل بها وجوه مخيفة من قلب العتمة.. قالت لي إنها أمضت الليل تفرغ فيها شحنة رعبها وحاولت أن تجسم بها تلك (القوى المجهولة) - وأطلقنا عليها ذلك الاسم.. هذه هي الملكة البسيطة في عقائدها، المثقفة، المتناقضة مع نفسها في شتى المجالات».