أول وأشهر شوارع بغداد يتحول إلى مركز للورش .. وأبنيته تتعرض للهدم

صاحب أحد المتاجر: شارع الرشيد أخذ نصيبه مما لحق بالعاصمة من خراب

شارع الرشيد اليوم نسخة بائسة لما كان عليه أيام زمان («الشرق الأوسط»)
TT

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية: أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، أنصابها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.

لا شيء تبقّى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.

«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد..التي لم تعد بغداد.. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.

ما من بغدادي إلا وله ذكريات وذاكرة مع شارع الرشيد؛ ذكريات تمتد من طفولته وحتى اليوم، بل ما من زائر ووافد إلى بغداد إلا ودشن خطواته في تلك المدينة فوق أرصفة شارع الرشيد وبين أعمدته وفي محلاته ومقاهيه ومكتباته وأسواقه ومطاعمه. وعندما تُذكر بغداد يقترن ذكرها باسم أول وأهم وأجمل وأبرز شارع في تاريخها، وهو شارع الرشيد الذي تم شقه خلال الحكم العثماني، وعرف أولا باسم شارع (خليل باشا جادة سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910، والذي سرعان ما تحول إلى شريان المدينة الحيوي.

وثمة معلومة تاريخية مفادها أنه ما من عهد مر على بغداد إلا وكان لهذا العهد شارع أو شوارع تشق وتعبّد وتعتمد، وكذلك جسور تقوم بين ضفتي نهر دجلة لتزيد من تقارب وترابط كرخ بغداد ورصافتها إلا السنوات السبع التي تمتد ما بين عامي 2003 و2010، فلم تعرف هذه السنوات شق أي شارع أو بناء أي جسر، بل على العكس خُربت الشوارع التي كانت قائمة، ولم تعد معظمها صالحة للاستخدام. وإذا عرفنا أن معظم الشوارع والجسور التي تم تنفيذها في العهود التي تلت العهد الملكي، كانت ضمن مخططات مجلس الإعمار الذي ترأسه أشهر رئيس حكومة في العهد الملكي، نوري سعيد باشا، فسوف يزيد استغرابنا، كون العهود التي جاءت بعد العهد الملكي تتبعت خطى هذا العهد على الرغم من أن الإمكانات المادية كانت فقيرة للغاية.

شارع الرشيد وحد البغداديين، وكان رمزا معلنا لوحدتهم، وعنوانا للقاءاتهم اليومية، إذ تقع فيه محلات سكن المسيحيين واليهود والمسلمين في حارات أو «عكود» (أزقة) متجاورة مثل (عكد النصارى) و(عقد اليهود) و(محلة العمار). وكان ملتقى النخب السياسية والثقافية والاجتماعية والطبقات الشعبية بكل تنوعاتها وفئاتها. بل إن الطفل العراقي أول ما يتعلمه قراءةً وكتابةً في «القراءة الخلدونية» التي وضعها ساطع الحصري، وفي أول شهر من دخوله المدرسة الابتدائية، جملة شهيرة ما زال كل العراقيين يتذكرونها «شرطي المرور في شارع الرشيد»، لكن للأسف لم يعد هناك شرطي للمرور في شارع الرشيد، لأن الشارع أصلا تحولت وظائفه وخرائطه، وبدلا من أن تسير فيه السيارات الحديثة صار مرتعا للعربات البدائية التي تدفع يدويا أو تُجر بواسطة الحمير وكأن الزمن عاد بالشارع إلى بداياته في أوائل القرن الماضي عندما تم شقه وسارت فيه عربات كانت تجرها الخيول وقتذاك.

دخلنا إلى شارع الرشيد من جهة شارع (أبو نؤاس) مع زيد الأعظمي، هكذا أراد أن يكون لقبه كونه ولد عام 1956 في حي الأعظمية وترعرع في إحدى محلاتها السكنية، محلة السفينة، قريبا من ضفاف دجلة، حتى ترك العراق في منتصف عام 1979 إلى باريس لدراسة التصوير السينمائي، وعاد بعد ثلاثة عقود، في 2009، محملا بحلمين كبيرين، الأول إنتاج فيلم وثائقي عن حي الأعظمية، والثاني تصوير فيلم وثائقي عن شارع الرشيد «لكنني وجدت أن الأعظمية هي ليست المحلة أو الحي الذي تركته، كنت أتخيل أنني سأجده أكثر تطورا عمرانيا واجتماعيا، لكنني وجدته مسورا بجدران خرسانية، وأن بيوتاته العتيقة تهدمت، وعوائله الأصيلة هاجرت، أو هُجرت، حتى أهلي تركوا بيت جدي القديم الواسع، ذا الطراز المعماري البغدادي وسكنوا في بيت حديث في حي اليرموك، أما شارع الرشيد، فهو بالتأكيد ليس بشارع الرشيد ولا علاقة له بهذا الاسم ولا بتاريخ ومجد هذا الشارع» يوضح الأعظمي بمرارة بالغة.

نتتبع مع الأعظمي خريطة الذاكرة سوية مستهلين خطواتنا ببيت الخضيري البغدادي التراثي الأصيل، الذي كان حتى نهاية التسعينات، أو قبلها بقليل، قائما كمركز حضاري يضم صالة للعروض التشكيلية وباحة تطل على جريان نهر دجلة تعزف فيها الموسيقى العراقية.. في ذاك الركن المقابل، تقريبا لبيت الخضيري، كانت هنا تسجيلات (جقماقجي) أول وأشهر شركة تسجيلات موسيقية (أسطوانات) في العراق حفظت إرث الموسيقى العراقية وخلدت أصوات المطربين المبدعين الأوائل، أمثال سليمة مراد، وحضيري أبو عزيز، وناظم الغزالي، ومحمد القبانجي، ويوسف عمر، وزهور حسين، وعفيفة إسكندر، وأحلام وهبي، وناصر حكيم، لكن الشركة باعت أصولها وأملاكها ومجد الفن العراقي في التسعينات وأغلقت أبوابها. كان شارع الرشيد روح بغداد، بل جمع كل بغداد في جغرافيته التي تمتد على مسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات لتربط ما بين بابين تاريخيين: الباب الشرقي والباب المعظم، وكان أيضا السوق التجارية الأهم والمركز التجاري الأول لبغداد.

يقول الاعظمي: «هنا كانت مقاهي المثقفين والناس الشعبيين، بدءا بمقهى البرازيلية التي لم يكن مسموحا بها لسماع الموسيقى، بل مخصصة لأن ينشغل زبائنها بالقراءة والنقاشات الثقافية الهادئة. وفي هذا الشارع كانت مقاهي البرلمان وحسن عجمي التي تتداعى اليوم قبل أن تلفظ أنفاسها، والزهاوي التي ما زالت تجاهد من أجل بقائها، ومقهى أم كلثوم وكوكب الشرق والرصافي»، غالبية هذه المقاهي أغلقت وتحولت اليوم إلى ورش لتصليح السيارات، ويقول الأعظمي: «تخيل وجود ورش للحدادة والميكانيكا في شارع الرشيد؟ هذه كارثة حقيقية لتاريخ بغداد». وفي شارع الرشيد كانت تقوم أرقى صالات العرض السينمائي، بدءا بـ«روكسي» و«ريكس» و«الخيام» و«علاء الدين»، ولكن لم يتبق من هذه الصالات إلا أسماء لا يعرفها الجيل الجديد، وتغيرت مهمات هذه الصالات إلى معامل نجارة وأثاث. وكلما توغلنا في هذا الشارع باتجاه منطقة الميدان، تواجهنا صور تدهور وانحطاط أول شوارع بغداد، فالسيارات لم تعد قادرة على اجتياز الشارع لوجود الدعامات الخرسانية التي تتوسطه، ثم إن الاحترازات الأمنية بالقرب من منطقة المصارف، ومنها المصرف المركزي ومصرف الرافدين تحول دون وصول أي مركبات، ومع ذلك يتعرض هذان المصرفان للتفجيرات بين فترة وأخرى، كان آخرها منتصف الشهر الحالي.

نرصد محلا، من مجموعة من المحلات، فارغا إلا من التراب وبقايا رفوف كانت تزدهر ذات يوم بالموديلات المختلفة من الملابس الرجالية الثمينة، يجلس عند بابه المتهالك رجلان اقتربا من السبعين من عمرهما، يلعبان الطاولة بتراخ، نسألهما عما حدث هنا، وما الذي غير أحوال هذا الشارع؟ يجيب قيس حنا: «لم لا تسأل عما حل ببغداد والعراق كله؟ فما حدث في شارع الرشيد هو جزء مما حل بالبلد وعاصمته، حروب وضياع وإهمال متعمد، والأخطر هو قتل الناس». وحنا كان يعمل في هذا المتجر الذي كان متألقا لسنوات طويلة «بدأت العمل هنا منذ كنت في العشرين من عمري، وفي نهاية التسعينات اضطر أصحاب المتجر إلى إغلاقه وتسليم مفاتيحه لي ريثما تستقر الأوضاع، لكنهم غادروا إلى أوروبا، وأنا مقيم بشقة فوق المتجر في انتظار عودة أصحابه، أنا لا أحرس هنا سوى الذكريات، إذ لم يتبق ما يستحق حراسته». ويضيف صاحبه «أبو علي»، هكذا أردنا أن نثبت كنيته، قائلا: «نعم كان لهذا الشارع أمجاده التي لم تتأثر حتى عندما تم افتتاح شوارع جديدة مثل شارع الجمهورية وشارع الكفاح وشارع السعدون، لكن الهجمات الأخيرة على الشارع من قبل ورش تصليح السيارات ومعامل النجارة والحدادة، وسيطرة غرباء عن بغداد وعن الشارع وحتى عن المهن التي كانت سائدة في هذا الشارع غيرت أحواله وأحوالنا، فهؤلاء يملكون أموالا طائلة ويشترون أي محل يريدون، ويفعلون ما يروق لهم بسبب غياب القوانين والتعليمات المشددة التي كانت تطبق من قبل أمانة بغداد، وهكذا ضاع كل شيء، ضاع شارع الرشيد وضاعت بغداد كلها».

الصدمة تبدو كبيرة عندما نصل إلى منطقة حافظ القاضي وسط الشارع بالضبط، حيث كان هناك واحد من أكبر وأحدث متاجر بغداد الكبرى والراقية (حسو إخوان)، الذي أغلق أبوابه منذ سنوات طويلة، وقبل أن يحل ببغداد خراب الأحزاب السياسية والحروب وقتال الميليشيات وصراع الطوائف والمذاهب، هذه المنطقة صارت عبارة عن مزبلة حقيقية، بينما تهدمت غالبية واجهات الأبنية التراثية التي قامت منذ قيام بغداد الحديثة، وتشوهت الزخارف المعمارية التي كانت هوية مميزة لأبنية شارع الرشيد.

وتتفرع عن شارع الرشيد أسواق مهمة وتاريخية، مثل سوق الشورجة الذي يضخ الطعام وكل مستلزمات العائلة العراقية لعشرات الآلاف من المتسوقين يوميا، هنا تسود عطور التوابل وأنواع الصوابين المصنوعة يدويا من الغار والهال، كما يتفرع عن الشارع سوق الصفافير (النحاسين) الذي يعود تاريخه للعصر العباسي.

ما بين مدخل الشورجة وحتى الساحة التي يقف فيها تمثال الشاعر معروف الرصافي (ساحة الرصافي) يشهد شارع الرشيد عشوائية لا سابق لها، حيث الباعة الجوالون في منتصف الشارع، باعة خضراوات وفواكه وملابس وكل أنواع البضائع الاستهلاكية، مع انتشار الصناديق الفارغة والمخلفات. بينما كان هذا الجزء من شارع الرشيد مخصصا لبيع المرايا، من هناك يتفرع سوق المرايا و(الجام) أو ما يعرف بـ(عكد الجام)، والمواد اليدوية ومستلزمات النجارة والحمامات. اليوم لا تخصص في أقسام الشارع، وما تبقى من محلات قديمة ومعروفة ضاعت بين هذه العشوائية الضاربة، إذ يحاول (كعك السيد) المذكور في غالبية روايات الكتّاب العراقيين، وأبرزهم فؤاد التكرلي، في رواية (المسرات والأوجاع) و(شربت الحاج زبالة) الذي يقدم منذ عشرات السنين ألذ عصير للزبيب (العنب المجفف) والواقع قبالة جامع الحيدرخانة الشهير، ومرورا بمقهى (حسن عجمي) الذي عرف باعتباره ملتقى للأدباء العراقيين، ومقهى الزهاوي والرصافي، ومدخل شارع المتنبي، وصولا إلى مقهى أم كلثوم قبل أن ندلف إلى سوق الهرج الذي يباع فيه كل شيء مستعمل، تقاوم بعض المحلات من أجل بقائها باعتبارها شواهد مهمة من عناوين شارع الرشيد.

لم يكن التقاط الصور للشارع ممكنا، لأننا لم نحمل تصريحا أمنيا وصادرا من جهات أمنية عليا تخولنا بالتصوير، لكننا استطعنا استراق بعض اللقطات خلسة، وما إن بلغنا نهاية شارع الرشيد من جهة الميدان، عبّر الأعظمي عن ندمه وخيبة أمله وقال: «لو أني عدت مبكرا إلى بغداد، لو أني صورت هذا الشارع من قبل، لكنت قد اختزنت لقطاته في ذاكرة التاريخ الذي حول أهم شوارع بغداد إلى خراب».