العميل بين المصارحة والتضليل

لاحم الناصر

TT

الرضا هو مناط تحليل أموال العباد، قال تعالى في سورة النساء آية 29 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة (إنما البيع عن تراض) ولا يتم الرضا المعتبر شرعا بوجود الغش أو التدليس أو الغبن أو الجهالة لأن هذه الأمور تعطي انطباعا كاذبا يولد رضا غير حقيقي، فمتى ظهرت الحقيقة تبين لمن وقع عليه الغش أو التدليس أو الغبن أنه كان جاهلا بحقيقة المبيع أو ثمنه، وأن رضاه لم يقع في محله، لذا حرم الإسلام كل هذه الصور لأنها تولد رضا غير حقيقي لم يبن على وقائع صحيحة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (من غشنا فليس منا) وفي رواية (من غش فليس منا) وهذه رواية أعم وأشمل، حيث تحرم الغش كسلوك بغض النظر عمن وقع عليه الغش؛ مسلما أو يهوديا أو نصرانيا، أو من أي ملة أو نحلة كان، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع المنابذة وهو قول البائع أي ثوب نبذته إليك فهو عليك بكذا ويتفقان على ذلك، وعن بيع الحصاة وهو أن يرمي المشتري أو البائع حصاة فما وقعت عليه فهو المبيع، وعن بيع المصراة وهو جمع اللبن في ثدي الشاة قبل بيعها ليدلس على المشتري بأنها ذات لبن، ونهى عن خلابة المسلم أي خديعته في البيع والشراء. ومن هنا فإن المصارف التي تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية أو تقدم خدمات متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية يجب عليها أن تتجنب كل هذه الممارسات التي نهت عنها الشريعة الإسلامية، إلا أن المتتبع لكثير من ممارسات المصارف الإسلامية أو المصارف التي تقدم خدمات متوافقة مع الشريعة الإسلامية يجد فيها الكثير من الممارسات القائمة على عدم مصارحة العميل، بل هي في الحقيقة تتعمد تضليله عن طريق إخفاء بعض المعلومات المهمة عنه والتي لو علم بها العميل لما أقدم على شراء هذا المنتج أو ذلك. ويبدأ تضليل العميل من الدعاية الكاذبة التي تظهر بعضا وتعرض عن بعض، فتظهر الوجه الجميل للمنتج وتخفي القبيح مثل الدعاية التي تحث العميل على الحصول على بطاقات الائتمان واستخدامها ووضع الجوائز على استخدامها، مستغلة في ذلك جهل العملاء الائتماني المطبق بهذه الأداة وطريقة احتساب الأرباح عليها، فلا يدرك العميل ما جناه على نفسه باستخدام هذه البطاقة إلا بعد أن يقع المحظور، فيجد نفسه يكافح زمانا طويلا لتسديد الأرباح فقط دون أن يطمع في تسديد أصل الدين، ولا شك عندي أن هذا من الخلابة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فيجب على المؤسسات المالية التي تقدم هذه الخدمة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية أن تنصح لعملائها ببيان مخاطر هذه الأداة لهم وكيفية الاستخدام السليم لها وطريقة احتساب الأرباح عليها قبل منحها لهم، ومن صور الخداع المنتشرة هذه الأيام كذلك ما يقع في تمويل العقار في المملكة العربية السعودية، حيث تقدم بعض المؤسسات المالية التمويل عن طريق الإجارة مع الوعد بالبيع، على أن تكون الأجرة متغيرة بحيث يتم تثبيتها أول سنتين من العقد ثم تتم مراجعتها بعد ذلك لتعديلها. والخدعة هنا أن الكثير من المؤسسات المالية تصرح لعملائها بأن المراجعة للأجرة ستتم بناء على ما تظهره السوق التأجيرية من ارتفاع وانخفاض. والحقيقة أن المراجعة ستتم بناء على تغير مؤشر السايبور (وهو سعر الإقراض بين البنوك السعودية) فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن سعر السوق التأجيرية يعتبر اليوم في المملكة في القمة وأن سعر الفائدة (السايبور) في أدنى نقطة له بدا لنا واضحا مدى الخدعة التي يتعرض لها العملاء، حيث يظن الكثير منهم أن الأجرة عند المراجعة إما ستنخفض نتيجة لانخفاض السوق التأجيرية في السنوات القادمة كما هو متوقع نتيجة لدخول وحدات سكنية جديدة ستوازن بين العرض والطلب أو في أقل الأحوال ستكون ثابتة، إلا أن الحقيقة هي خلاف ذلك، لأن المراجعة ستتم بناء على سعر الفائدة (السايبور) وهو ما يعني أن الأجرة سترتفع، حيث يظن الكثير من الخبراء أنه لا يمكن للبنك الاحتياطي الفيدرالي الإبقاء على سعر الفائدة المنخفض على الدولار فترة طويلة خشية الدخول في دورة تضخمية، فبمجرد ظهور بوادر انتعاش للاقتصاد الأميركي فسيقوم البنك الاحتياطي الفيدرالي بمراجعة سعر الفائدة ورفعها، وهو ما يعني ارتفاع سعر الفائدة (السايبور) في المملكة العربية السعودية نتيجة لربط الريال بالدولار ومن ثم سترتفع تكاليف التمويل العقاري على العملاء. وإذا أخذنا في الاعتبار طول فترة التمويل العقاري والذي قد يصل إلى 25 سنة، فلك أن تتخيل كم الزيادة التي سيتحملها العميل نتيجة لهذه المراجعة، وهو ما قد يؤدي في النهاية لتخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته، ولذا فإنني أعتقد أن الكثير من العملاء عندما يعلمون هذه الحقيقة سيفضلون التمويل بسعر ثابت ولو كان أكثر على التمويل بسعر متغير ولو كان أقل وهو ما لا تفضله المصارف تجنبا لمخاطر تغير سعر الفائدة. ومن هنا فإنني أطالب البنوك المركزية بالتشدد في معايير الإفصاح والشفافية المطبقة في البنوك في عمليات التمويل بحيث يدرك العميل جميع المخاطر التي يتعرض لها والبدائل المتاحة له وأن تقوم هذه المؤسسات الرقابية بمراجعة لجميع الوثائق والاتفاقيات للتأكد من عدم وجود أي لبس فيها مع وضع معايير للإعلانات التسويقية للمنتجات البنكية بحيث تبتعد عن تبسيط الأمور وتسهيلها ومداعبة غرائز العملاء، مع التشديد على أنها يجب أن تكون صادقة وصريحة، كما يجب على الهيئات الشرعية التي تجيز هذه المنتجات أن تضع معايير شرعية كذلك لتسويقها بحيث تتجنب جميع المحاذير الشرعية التي قد تؤثر في الرضا الكامل الذي هو مناط تحليل أموال العباد.

والله من وراء القصد.

* مستشار في المصرفية الإسلامية