المغربية بشرى جرار ترفع شعار «القليل كثير» و«ديور» تقول «الكثير قليل».. بالورد

انطلاق أسبوع الأزياء الراقية بباريس لخريف وشتاء 2011

من عرض «ديور» (رويترز)
TT

انطلق موسم أسبوع الموضة الراقية، بباريس أمس متعافيا وفي أجمل حالاته. فهناك رائحة تفاؤل قوية تعبق في الأجواء، بعد مواسم كثيرة من التشاؤم والتكهن بأن زمن الـ«هوت كوتير» قد ولى وأنها بدأت تنقرض بانقراض المهتمين بها سواء من الزبونات اللاتي تقلص عددهن إلى عشرات عوض آلاف، أو من مؤسسي بيوت الأزياء الذين إما واراهم الثرى أو تقاعدوا أو أصبحوا رهناء لمجموعات تجارية كبيرة. فجانب «الهوت كوتير» يشهد ارتفاعا لافتا في المبيعات مقارنة بباقي المجالات. دار «شانيل» على سبيل المثال لا الحصر سجلت في عام 2009 ارتفاعا يقدر ما بين 20 و30%، في حين أعلنت دار «جيفنشي» أن مبيعاتها بعد عرضها في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي ارتفعت بنسبة 10% مقارنة بالعام الماضي، كذلك الأمر بالنسبة إلى جون بول غوتييه و«ديور» وغيرهم. ويعود الفضل في هذا الانتعاش إلى أسواق آسيا، خصوصا روسيا، وإلى الصين والشرق الأوسط فضلا عن السوق الأميركية التي عرفت انفراجا بعد نحو عامين من التقشف، الذي دفع الكثير من الزبونات إلى كبح جماح رغباتهن الشرائية.

ما يؤكد أيضا هذا الانتعاش دخول دار «غوتشي»، المتخصصة بالجلود والأزياء الجاهزة، هذا الخط في عز الأزمة الاقتصادية العالمية. فخلال الدورة الـ63 من مهرجان «كان» السينمائي الأخير، قدمت أول تشكيلة لها، وكانت عبارة عن مجموعة محدودة من الفساتين الأنيقة. وعلى الرغم من أن «غوتشي» ليست وجها معهودا في العاصمة الباريسية، وتعتبر ميلانية قلبا وقالبا، فإن دخولها هذا المجال يعتبر تجاوبا مع هذا الانتعاش ومع متطلبات السوق حاليا. وهذا يؤكد أن الأزمة المالية قد تكون أثرت على الموضة، إلا أنها من جهة أخرى، أثرت إيجابا على قطاع المنتجات المترفة جدا. فالكل يجمع على أن ثقافة الشراء تغيرت وأصبح الزبون المقتدر يريد قطعا فريدة ومميزة من حيث الجودة والفنية والابتكار حتى تبرر أسعارها. وهذا هو التحدي الذي يواجهه المصممين حاليا، وهو ما سيجعل هذا الموسم خاصا وحافلا على حد سواء. وإذا كان ما رأيناه أمس هو المعيار، فإننا على موعد مع أسبوع سيجعلنا نعيش الزمن الجميل مرة أخرى، على الرغم من غياب عدة أسماء تجعله أسبوعا قصيرا وخفيفا بالمقارنة مع السنوات الخوالي، حين كانت العاصمة تضج بكبار المصممين. اليوم غابت عدة أسماء، آخرها كان كريستيان لاكروا الذي أغلق داره في العام الماضي، ثم إعلان مصمم دار «جيفنشي» ريكاردو تيشي أنه سيستبدل بعرض الأزياء عروضا خاصة وبمواعيد تحدد مع وسائل الإعلام والزبائن على حد سواء.

تقلص خريطة برنامج هذا الموسم الذي تعتز به باريس، لأنه ملكها وحدها ولا تنافسها فيه أي عاصمة عالمية، يرسل قشعريرة في أوصالها. فباريس لا يمكن أن تعترف بأي شكل من الأشكال بأنها أصيبت بالشيخوخة والكبر، وهذا ما يجعلها تبحث عن دماء شابة وجديدة تضخ فيه بعض الحيوية والحياة، منطلقة من قناعتها بأن أي دار متخصصة بالهوت كوتير تحتاج إلى مبدع وراءها، لهذا كان ظهور اسم بشرى جرار على لائحة برنامج الهوت كوتير، بمثابة نسمة صيف عليلة تعطي الأمل بأن القادم قد يكون حلوا وأن الموضة تتجدد على كل المستويات في عاصمة السحر والأناقة. بشرى، تنحدر من أصول مغربية وسبق لها العمل في دار «بالنسياجا» لعدة أعوام، ثم مع كريستيان لاكروا قبل أن يعلن إفلاسه ويغلق داره.

كان بإمكانها أن تبحث عن دار أخرى تنضوي تحتها، لا سيما أن سيرتها الذاتية غنية وخبرتها طويلة تجعلها مكسبا لأي واحدة من هذه البيوت، لكنها اختارت أن تصمم وتبدع تحت اسمها، لتقدم في الموسم الماضي أول تشكيلة من توقيعها نالت الإعجاب، على الرغم من عدد قطعها المحدود وألوانها التي اقتصرت على الأسود والبيج. طريقة تنفيذها وتفصيلها كانت لافتة، تشي بأن وراءها مصممة لها باع طويل. وجاءت ثاني تشكيلة لها يوم أمس، لتؤكد هذه الحقيقة. فهي من المصممين الذي يرفعون شعار «القليل كثير» معتمدة على التفصيل المحسوب والفنية الهادئة التي لا تتوخى الاستعراض بقدر ما تتوخى مخاطبة امرأة عصرية، لكن تعشق التميز. عرضها أكد أيضا أن باريس وفقت أخيرا إلى مصممة شابة تجمع بين الحرفية والابتكار والدقة. فقد اشتغلت عليها بشرى وكأنها مصممة ودكتور جراح يقوم بعملية حساسة جدا، سواء من حيث قصاتها المحسوبة أو ألوانها المحدودة، التي اقتصرت مرة أخرى على البيج والأسود والأزرق مع رشات من ذهب هنا وهناك. فقد كانت هناك فساتين ناعمة بقصات مستقيمة، وبطيات من الظهر تنفتح لتكشف عن بطانة من الساتان وكأنها جزء منفصل. كانت هناك أيضا فساتين بخطوط هندسية بياقات على شكل v هي في الواقع كنزات فوق تنورات مستقيمة لكن مشبوكة بخيوط رفيعة مع بعض عند البطن. لكن هذا لا يعني أن كل ما في العرض كان بسيطا و«نظيفا» إن صح الوصف، فقد سمحت بشرى لنفسها بمساحة من الانطلاق تجلت، مثلا، في فستان من دون أكمام من جلد الماعز مزين بياقة من الفرو تنسدل من جانب واحد إلى الركبة وتتخللها تفاصيل من الذهب، على شكل حواشٍ من اللاميه، فضلا عن القصات المبتكرة للظهر التي تكشف عدة جماليات.

أقل ما يقال عن تشكيلتها أنها عكس ما قدمه جون غاليانو لدار «ديور» تماما، بل كانت مثل الفرق بين السماء والأرض. فبينما تميزت تشكيلتها بالهدوء والهندسية المحسوبة والألوان المحدودة، جاءت تشكيلة غاليانو ثورة من الألوان، تتحدى البساطة ولا تعترف بأن «القليل كثير». تشكيلة عاد فيها غاليانو إلى ما عهدناه عليه قبل بضعة مواسم، أي عندما كان في قمة عطائه وإبداعه. ولا شك أن الانتعاش الذي تشهده دار «ديور» على العموم، وجانب الهوت كوتير على الخصوص، منحه ثقة أكثر للعودة إلى الدرامية، التي يتقنها جيدا، وغابت في عروضه الأخيرة إلى حد ما. لم يسافر بعيدا إلى عوالم خيالية ولم يغص بنا في كتب التاريخ وشخصياته المثيرة، بل أخذنا فقط إلى غرانفيل، مسقط رأس المؤسس، كريستيان ديور. وتحديدا إلى حديقة بيته ليغرف من ألوانها وعبقها، ليكشف عن جانب كامن في شخصيته. جانب رومانسي يفهم لغة الورد والأزهار. فكل قطعة من قطعة أمس، أخذت شكلا من أشكالها. فهي مرة متفتحة ومرة أخرى لا تزال مغلقة على نفسها لكن تعد بقرب تفتحها، أما الألوان فحدث بلا حرج. منذ أول طلة، تبين أننا في حديقة غناء وأن كل قطعة هي باقة ورد، حيث ظهرت عارضة في معطف بنفسجي بحجم منفوخ تزينه ياقة تغطي الأكتاف ونصف الصدر تقريبا من اللون نفسه على شكل ورود مقطعة بالليزر. تقنية أكد غاليانو عبر السنوات أنه يتقنها ويتلذذ بالتفنن فيها، بالإضافة إلى أن الماكياج كان زاهيا وتسريحة الشعر مشدودة إلى أعلى بسيلوفان. باستثناء هذا المعطف، لم تكن هناك أي قطعة بلون واحد، فحتى تلك التي كانت كذلك، أدخل عليها أحزمة بألوان إما متناقضة تماما أو بدرجات مختلفة. ولحسن الحظ أنه لم يصبنا بالتخمة منها، بل العكس، كانت تفتح الشهية على المزيد مع كل طلة. فقد نجح في التلاعب على تدرجاتها بشكل تبدو فيها وكأنها أمواج في جزيرة خيالية تتراقص على مياهها ورود من حديقة السيد كريستيان.

إلى جانب فساتين السهرة والمساء الخاصة بمناسبة خاصة جدا، كانت هناك فساتين كوكتيل متنوعة لعب فيها أيضا على النقوشات الفنية، بعضها مرسوم باليد، والألوان المتدرجة وفن الأوريغامي، لتبدو بعض التنورات البيضاوية الشكل كأنها مصنوعة من بتلات ورد، عدا أن شكلها ككل يذكر بزهرة التوليت التي كان السيد ديور يعشقها، ولا يزال بيته في غرانفيل يحفل بها ويعبق برائحتها. لكن هذه الزهرة لم تكن الذكرى الوحيدة للمؤسس، فالجاكيت المفصل على الخصر ليتسع قليلا من تحته كان حاضرا بقوة فوق تنورة ضخمة. الحجم الكبير كان عنصرا آخرا لعب عليه المصمم ليخلق قطعا درامية تستحضر حفلات القصور والبلاطات وبالتالي موجهة لامرأة نخبوية، إذ علينا أن لا ننسى أنها الـ«هوت كوتير» أولا وأخيرا. فهي إذا كانت تدغدغ الحلم لدى الأغلبية من النساء، وتبقى مجرد حلم يتفرجون عليه من بعيد، فهي بالنسبة إلى حفنة من النساء عز الطلب. وإذا كان الطلب هو إحداث تأثير درامي إيجابي، فإن هؤلاء لن يذهبن بعيدا في بحثهن، وسيجد غاليانو نفسه مضطرا لإلغاء أي مشروع إجازة في الأسابيع القليلة القادمة حتى يستطيع أن يلبي الطلبات.