بغداد.. بلا بغداد (الأخيرة) : النساء بين التفاؤل والتشاؤم حول أوضاعهن في العراق الجديد

عراقية: لا نحصل على جواز السفر إلا بموافقة ولي أمرنا.. وناشطة نسوية: ربع مقاعد البرلمان لنا

شرطيات عراقيات في حفل تخرجهن («الشرق الأوسط»)
TT

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.

لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.

«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الأخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.

هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.

هناك من يتفاءل بوضع المرأة العراقية اليوم، وهناك من يصر على أن أوضاعها تراجعت إلى الوراء، أو في أفضل الاحتمالات، فإنها لم تتقدم على الإطلاق.

تقول مريم حامد، 42 سنة، وهي ربة بيت ولديها ولدان وبنت: «ما الذي حصلنا عليه نحن النساء سوى المزيد من المتاعب، فأنا أمضي وقتي في البيت مع ابنتي التي صارت هي الأخرى ضحية الأوضاع السيئة في بغداد، نحن لا نخرج إلا نادرا وبرفقة أولادي، ولا ندع ابنتنا تخرج حتى لزيارة صديقتها في ذات الحي الذي نعيش فيه خوفا عليها من الاختطاف، وإذا خرجنا فإننا نذهب إلى السوق القريبة أو إلى مقهى في حي المنصور لشرب العصير أو تناول المثلجات، وهذا يحدث مرة كل أسبوعين أو ثلاثة».

وتدرج مريم بعض فقرات مهماتها اليومية في البيت، ذاكرة: «من أولوياتنا التأكد من خزين الماء في البيت، فإذا فقدنا هذا الخزين يتحول يومنا إلى جملة من المتاعب، لهذا ننتظر وصول التيار الكهربائي، الزائر العزيز، لتشغيل الموتور لتزويد الخزان بالمياه، وهكذا يتسلسل برنامج عملنا أنا وابنتي (20 سنة) ما بين التنظيف اليومي لكامل البيت بسبب العواصف الترابية، والدخول إلى المطبخ، وباختصار فإن ساعات عملنا البيتية تبدأ منذ الثامنة صباحا تقريبا ولا تنتهي إلا بعد منتصف الليل».

ومريم واحدة من العراقيات والتي تلخص معاناة المرأة العراقية غير الموظفة، فهي فقدت زوجها بعد أن تم اختطافه قبل أربع سنوات، ثم تمت تصفيته بعد أن تسلم الخاطفون 45 ألف دولار كفدية، وبذلك فقدت العائلة معيلها ومدخراتها كاملة في حادثة واحدة.

لكن شهلاء النعيمي، بكالوريوس إدارة، وموظفة في إحدى الجامعات العراقية، تصف باختصار معاناة المرأة العراقية الموظفة، قائلة: «إنها معاناة مضاعفة، فلنا أن نعرف ما تعانيه أولا ربة البيت ونضيف إليها معاناة ومشاق التنقل من البيت إلى العمل، والعودة إلى البيت، ثم مشكلات العمل وهمومه، وهذا يحتاج إلى وقت طويل لشرحه»، مشيرة إلى أن «الحافلة التي تنقلنا ما بين البيت والعمل، والعكس، غالبا ما تتعرض للعطل، وهي غير مكيفة أصلا، وإذا استخدمت سيارتي في التنقل فإنني سأعود منهارة جراء أسلوب السياقة السائد في الشارع العراقي، لهذا أفضل استخدام الحافلة»، ومع هذا، توضح النعيمي قائلة: «أنا أفضل الاستمرار في العمل على الرغم من المشاق التي نعانيها لأنني لا يمكنني أن أتحول إلى ربة بيت فقط، فالعمل يتيح لنا فرص لقاء زملائنا، والمراجعين، ويشعرنا بأننا نقدم جهدا معقولا للآخرين».

وعلى الرغم من كل ما نراه ونسمع عنه حول معاناة المرأة العراقية، فإن ميسون الدملوجي، رئيسة التجمع النسائي العراقي المستقل، تبدي تفاؤلها «بما أنجزته المرأة العراقية وبما أنجز من أجلها»، تقول الدملوجي، الناشطة في المجال النسوي لـ«الشرق الأوسط»، إن «التجمع النسائي العراقي المستقل، هو أول منظمة نسوية تم تشكيلها في العراق بعد تغيير النظام السابق، وكان أول اجتماع لها في التاسع من مايو (أيار) 2003، أي بعد شهر واحد من سقوط النظام السابق، وتجمعنا يصدر مجلة نسوية شهرية (نون) وهو التجمع الوحيد الذي يصدر مجلة، وتحررها عضوات منظمتنا ونصدرها بدعم ذاتي، كما أننا ننظم ندوات علمية وطبية خاصة عن مخاطر أمراض السرطان التي تصيب المرأة، وندوات ثقافية أخرى كانت أبرزها عن مستقبل مدينة بغداد».

وترى الدملوجي أن «وجود ربع أعضاء البرلمان العراقي من النساء، وأكثر من أربع وزيرات في الحكومة العراقية هو إنجاز كبير للمرأة العراقية ونفخر به، ولا أعتقد أن هناك أي برلمان عربي يضم اليوم 84 عضوا نسائيا تقريبا، ونحن نفخر بوقفتنا ضد قرار مجلس الحكم 137 الذي أراد إلغاء الفقرة 41 من قانون الأحوال الشخصية الصادر سنة 1957، والتي تتعلق بموضوع الزواج والإرث والطلاق، والذي يعتمد على الشريعة الإسلامية، إذ أخذ هذا القانون ما هو لصالح الأسرة العراقية من كل المذاهب السنية والشيعية».

وتصر الدملوجي، التي كانت قد شغلت منصب وكيلة وزارة الثقافة قبل أن تنتخب كعضو في مجلس النواب، بدورته السابقة، على عدم تسمية وجود المرأة العراقية في الحكومة هو مجرد «ديكور» يدفع الحكومة لأن تتفاخر بوجود وزيرات ضمن تشكيلتها الوزارية، مشيرة إلى أن المرأة العراقية تسلمت وزارات، البلديات والأشغال والإعمار، والبيئة وحقوق الإنسان، إلا أن استقالة وزيرة الدولة لشؤون المرأة نوال السامرائي، العام الماضي، جاءت لتؤكد أن الموضوع لا يتعلق فقط بتسمية وزيرة، أو وزيرة للمرأة، كما أشارت في أسباب استقالتها، ومنها «محدودية الصلاحيات» التي تتمتع بها والتي لا تتناسب واحتياجات المرأة العراقية، قائلة إن وزارتها مجرد «مكتب استشاري داخل المنطقة الخضراء، ليست له أي صلاحيات»، وكذلك بسبب «ضعف الموارد المخصصة لمواجهة جيش من الأرامل والعاطلات عن العمل والمضطهدات والمعتقلات».

وأشارت وزيرة المرأة السابقة إلى أن هناك «الكثير من المشكلات التي تعاني منها المرأة العراقية. لدينا جيش كامل من الأرامل وهو ما يولد احتياجات كبيرة جدا ولدينا عاطلات عن العمل ومضطهدات ومعتقلات وكل شيء موجود»، منبهة إلى أنه «يجب أن تكون هناك وزارة بحقيبة كاملة يمكنها تقديم خدمات أفضل».

لكن الدملوجي تصر على التعبير عن تفاؤلها، كون المرأة العراقية «أثبتت كفاءتها العالية، وبرهنت موهبتها في الإدارة وقيادة المجتمع، وأنا متفائلة بالوضع العراقي الجديد، وهذا ينطلق من إيماني بقدرة المرأة على التغيير، فهي جزء من الأوضاع العامة في البلد ومن النظام الديمقراطي الجديد، ولا يمكن أن يتقدم البلد وتبقى المرأة متراجعة، بل إن كل الأمور مترابطة مع بعضها».

وفي مقابل تفاؤل الدملوجي بأوضاع المرأة العراقية، ترفع سندس عباس حسن، رئيسة معهد المرأة القيادية، صوتها عاليا معترضة على تعليمات إصدار جواز السفر المقروء آليا، والذي «يشدد على وجوب استحصال موافقة ولي الأمر للمرأة العراقية غير المتزوجة والمتزوجة والأرملة والمطلقة، للحصول على جواز السفر».

تقول سندس حسن: «إذا قمنا بقراءة متمعنة للتعليمات التي وضعت من أجل أن تحصل المرأة العراقية على جواز سفر فإننا سنجد أنفسنا أمام تناقض كبير إزاء الدستور العراقي وخرق لما ورد في باب الحقوق والحريات في مواده 14، 15، 16 مع تناقض أكبر إزاء الفقه القانوني العراقي الملتزم بمبادئ المساواة، والضامن للأهلية الكاملة للمرأة في التشريعات المحلية العراقية، هذا فضلا عن تناقضها مع التزامات العراق الدولية إزاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 والعهدين الدوليين واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979 وقطعا إزاء التوجه الديمقراطي الذي يحق (لمدعيه) التفاخر به أمام دول الجوار القريب والبعيد منذ عام 2003».

تقول رئيسة معهد المرأة القيادية: «دعونا الآن من الدستور والقوانين والالتزامات الدولية، ولنحاول أن نفهم معا السر الخفي وراء هذه التوجهات في بلد تقود فيه النساء العديد من الوزارات وتشارك بما يفوق 25% في البرلمان»، منبهة إلى أن «مثل هذه التعليمات لا نجدها في قانون الانتخابات أو في تعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات!! ولماذا لم تضع رئاسة الوزراء هذه التعليمات أمام أي كتلة سياسية ترشح وزيرة لموقع ما؟ وماذا عن المستشارات ووكيلات الوزارات؟ أليست قيادة البلد أخطر واهم كثيرا من أي أمر آخر، وما رأيكم في الطبيبة التي يضع الرجال أرواحهم بين أيديها، ترى هل سألوها عن موافقة ولي الأمر؟ ورئيسة المهندسين التي تضع الجسور والمباني التي يمر عليها الرجال قبل النساء؟ وماذا عن الأرملة الشامخة التي تعيل أسرتها وهي واقفة منذ ساعات الفجر الأولى في (كراج النهضة) تبيع القيمر والشاي لسائقي السيارات وركابها من الرجال؟ هل تراها استوقفت يوما أحدا من أصحاب هذه التوجهات أم تراها قادمة من كوكب آخر؟ وبمن تراها ستستعين تلك المرأة التي فقدت الأب والأخ وتسرب عمرها في البحث عن ما تبقى من أجسادهم لتدفنها ولتصلي وقد شدت مآزرها لتكافح خدمة للوطن ولتربية الأيتام الذين تعيلهم وتحسن تربيتهم، أتراها تستأجر ولي أمر أم تستعير أحدهم؟ حقا ماذا ستفعل؟ أعتقد أن الأمر هنا متروك لتعليمات لاحقة لذات المديرية».

أما هناء ادور (62 عاما)، الناشطة في مجال حقوق المرأة، فتقول: «للأسف الشديد لا يزال واقع المرأة العراقية مريرا وصعبا للغاية بسبب تراكم المشكلات وفقدانها للمقومات الأساسية للحياة في السكن والرعاية الصحية والعمل والتعليم فضلا عن تعرضها للاضطهاد جراء العنف الطائفي والتهجير القسري»، مزيدة بقولها: «أجرينا العام الماضي دراسة شملت عينة من المجتمع العراقي أظهرت أرقاما مخيفة لأوضاع المرأة في البلاد حيث حصلنا على نسبة 55 في المائة من النساء هن من ضحايا العنف الأسري والعشوائي في الشارع والعنف الطائفي وأن 33 في المائة منهن يعلن أسرهن من خلال العمل وهن غير متزوجات ونحو 76 في المائة من النساء الأرامل لا يتسلمن أي مساعدات أو تعويضات من الحكومة ويعشن في ظروف قاسية جراء عدم توفير الحماية المالية لهن والتباطؤ في تقديم المنح المالية لهن».

رغم كل هذا فإن المرأة العراقية ما تزال تؤثث المشهد البغدادي بوجودها الغني، والمميز، معبرة عن إصرارها وبقوة على عدم التنازل عن دورها، باعتبارها أستاذة جامعية موظفة أو طالبة، أو شرطية، أو طبيبة أو مهندسة، أو صحافية أو محامية.

تؤكد نادية، موظفة في وزارة الموارد المائية، أن «بقاءنا سواء في العمل أو حتى ببغداد هو بمحض اختيارنا، فأنا سافر معظم أفراد عائلتي لكنني لا أستطيع أن أتصور نفسي خارج العراق، ونعتقد أن المصاعب في طريقها إلى الزوال كلما تقدمنا بتجربة العراق الجديد»، منبهة إلى أن «غالبية الموظفات يعانين من صعوبات كثيرة، فمجرد خروج المرأة من بيتها هو مغامرة، وهذه المغامرة تنحسر مخاطرها اليوم بشكل كبير، وليس أمامنا أي خيار، أما أن ننسحب ونترك كل شيء للرجل أو أن نبرهن وجودنا كشريكات حقيقيات وقويات في هذا المجتمع، وهذا بحد ذاته يدفع بتجربتنا الوطنية إلى الأمام».