أرماني يعزف مقطوعة كلاسيكية عصرية.. وستيفان رولان يقدم درسا في الإبداع الفني

اليوم الثاني من موسم الـ«هوت كوتير» لموسمي الخريف والشتاء المقبلين.. لقاء الكبار

TT

الحرارة المرتفعة في العاصمة الفرنسية هذه الأيام وأوقات الفراغ، التي يفرضها شح العروض، تجعل كل من تعود حضور عروض باريس سابقا يشتاق إلى بعض الأدرينالين الذي كان ينتج عن البرنامج المكتظ بالأسماء. برنامج كان يتطلب من أي شخص لياقة بدنية عالية للركض من مكان لآخر حتى لا تفوته اللحظات الأولى من أي عرض لينتهي به الأمر الدخول لاهثا ومتلمسا طريقه في الظلام تحت نظرات الغيظ من الجلوس. لكن شتان بين الأمس واليوم. فبرنامج أسبوع الهوت كوتير لخريف وشتاء 2011، تقلص بشكل ملحوظ بعد سلسلة التقاعدات والمشكلات المادية وغيرها. ففي العام الماضي، مثلا، شهدنا غياب كريستيان لاكروا بعد تعرض داره للإفلاس، وهذا العام، أعلنت دار «جيفنشي» العريقة أنها ستتوقف عن تقديم عروضها الخاصة بالهوت كوتير، واكتفى مصممها ريكاردو تيشي بتنظيم مواعيد خاصة مع الزبونات. تيشي أنكر أن الأسباب مادية تستدعي تقليص الميزانية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك في محاولته إقناعنا بالعكس، بقوله إن هذه المواعيد الخاصة وما تتطلبه من تحضيرات وعارضات على مدار اليوم وما شابهها من أمور ستكلف، صدق أو لا تصدق، 35% أكثر من عرض عادي. وحسبما صرح به لمجلة «دبليو دبليو دي» (ويمنز وير دايلي) فإن السبب الحقيقي، يعود بكل بساطة إلى أنه تعب ومل من العروض التقليدية وأنه يريد أن «أجعل الهوت كوتير تجربة خاصة أكثر مما هي عليه الآن. أريد أن يتمكن الناس من عيش اللحظة..معاينتها ولمسها. إنها خطوة لجعل (الكوتير) تعود إلى الوقت الذي كانت فيه نخبوية». تجدر الإشارة إلى أن تيشي قدم عشر قطع فقط عوض 30، وهو العدد المعتاد في أي عرض. لحسن الحظ أن باقي المصممين جمعوا النخبوية والتميز بالعروض المفتوحة لوسائل الإعلام والزبائن والمشترين، بدءا من جيوجيو ارماني الذي قدم عرضه صباح يوم أمس في «بلاس فإندوم» أو ستيفان رولان الذي قدمه ظهرا في متحف «تروكاديرو» أو شانيل» في «لوغران باليه» مساءا على الساعة الثامنة.

تشكيلة «أرماني بريفيه» مثل عطره الفاخر جاءت تعبق بالعنبر، الذي استعمل كل درجاته تقريبا، بدءا من خشب الصندل إلى الذهب. ورغم أنها تشكيلة تفتقد عنصر الجديد بمعنى إحداث الصدمة أو انتزاع الشهقات، فإن أرماني أكد من خلالها، أنه لا يفهم معنى الترف فحسب، بل يفهم المرأة ومتطلباتها، ويعرف ما تريده من كل صغيرة وكبيرة في حياتها العصرية من أزياء وإكسسوارات، وبالتالي جاءت تشكيلته مهداة إلى كل جزء من هذه الحياة. استهل العرض بمجموعة خاصة بالنهار وحفلات الكوكتيل وأنهاها بقطع خاصة بالسهرات. وفي كل الحالات كانت تنطق بتفاصيل فخمة وكأنها قصائد غزل مغزولة من خامات مترفة ومرصعة بأحجار الكريستال والأحجار البراقة. بيد أن اللافت هذا الموسم ابتعادها عن المبالغة في البريق الذي كان يسهب فيه في المواسم الماضية، فضلا عن استغنائه أيضا عن القبعات الغريبة ذات الأحجام الصغيرة جدا التي كان يتحف الحضور بها. في المقابل استعاض عنها بتسريحات متماوجة لعارضات شقراوات وفارعات الطول بدون وكأنهن مستنسخات عن بعض. أما الإكسسوار الذي لا يمكن تجاهله هنا فكان حقيبة اليد. فبينما استغنى عنها معظم المصممين، على أساس أن موسم الهوت كوتير تكون فيه البطولة المطلقة للأزياء وحدها، فإن جيورجيو ارماني، بحسه الفني والتجاري على حد سواء، قدم مجموعة متكاملة منها تخاطب كل المناسبات. فللنهار أرسل عددا منها بأحجام متوسطة وخامات مترفة تغلب عليها جلود التماسيح والنعام، وللمساء مجموعة أصغر تحمل باليد على شكل محفظة بأحجام متنوعة، أيضا بخامات مترفة زادها الترصيع بالأحجار بريقا. إلى جانب هذه الحقائب، أكد المصمم المخضرم أنه لم يفقد لمسته الذهبية، وأن التفصيل الذي تميز به منذ السبعينات لا يزال يجري في دمه وبين أنامله، الأمر الذي تجلى في التاييرات المتنوعة، والتنورات المستقيمة التي اكتسبت عصرية، والمعاطف التي زادتها التفاصيل المبتكرة أناقة وتميزا، مثل معطف من الكشمير يعقد عند الياقة بإبزيم من الجلد صغير جدا. الفساتين أيضا اكتسبت مرونة ونعومة، بعضها كان من حرير الجيرسيه وبعضها الآخر من الجلد أو الصوف. تشكيلة قد تكون كلاسيكية من حيث التفصيل وتقاليد الخياطة الإيطالية، إلا أنها تخاطب امرأة عصرية بكل المقاييس.

يخرج من يحضر عرضه متأكدا أنه من الصعب مضاهاة عبقرية هذا المخضرم وخبرته الطويلة، ليتفاجأ بعرض ستيفان رولان، الذي كان يقطر إبداعا وفنا. ففي كل موسم يتفوق هذا الشاب على نفسه وينتزع ابتسامات الرضا من كل الحاضرات، وكأنهن يطمئن أنفسهن بأن «الهوت كوتير» لا تزال حية وتستحق اهتمامهن وكل ما سينفقنه لقاء الحصول على قطعة منها. فهو هنا أكد أنه مصمم أزياء، ونحات ورسام متمكن من أدواته.

التشكيلة التي قدمها أمس جاءت محملة ببريق الأحجار التي صقلتها أمواج البحر، كما يشرح، معترفا أن كل انحناءة وكل ثنية وطية فيها استلهمها من أعمال النحات انيش كابور خاصة تمثاله الشهير «بوابة السحاب». فانعكاسات هذا التمثال هي التي أوحت بدرجات ألوان هذا الموسم من الأزرق المتلون بأعماق البحر والذي يخفت بالتدريج ليصل إلى السماوي الشاحب، مع مزيج من الأسود والبني المخضب بلون لحاء الشجر فضلا عن الرمادي. وكما أن قطع كابور تتميز بالبساطة التي تدخل في نطاق السهل الممتنع بألوانها البراقة وأحجامها التي تثير التشويق، لا سيما من خلال التجاويف العميقة والداكنة، كذلك هذه القطع التي تختلط فيها الألوان في تدرج مثير يتراقص على أقمشة من الكشمير والكريب مغلفة بالأورغانزا إلى جانب أقمشة الجازار والجلود التي تحولت إلى حرير بفضل التقنيات المتطورة التي استعملها المصمم بكرم. اعتمد المصمم على ازدواجية مثيرة سواء في مزج الألوان، أو في الأشكال، فقد كان هناك فستان طويل، مثلا، يبدو من بعيد وكأنه مكون من تنورة بذيل وجاكيت من الجلد لكن بالاقتراب منه يكشف أنه فستان موصول ومشبوك من الخلف. هذه الازدواجية ميزت الكثير من القطع، حيث خلط بين المخمل والأورغنزا، والجلد والساتان، كما مزج الضيق والبسيط بالفني والمعقد، مما أضفى على التشكيلة تنوعا مثيرا. فقد كانت فساتين قصيرة من الأمام تجر خلفها ذيلا طويلا، وأخرى على شكل فساتين ضيقة منحوتة لكن يظهر منها دائما جزء غائر، سواء على الخصر أو بالقرب من الركبة، يخفي تحته مفاجأة إما على شكل ترصيع أو على شكل فيونكة. الأكمام بدورها تميزت بتقوس أشكالها وتنوعها إلى جانب الياقات التي تنافست مع بعضها في الابتكار. فهي مرة مفتوحة عند الصدر وملتفة على بعضها، ومرة عالية تغطي الرقبة من الأمام لتنفتح من الخلف وتكشف عن ظهر مفتوح. ومع كل نغمة موسيقى، توالت القطع وتخايلت العارضات في حركة دائبة لا نهاية لها، يولدها شلال من وريقات الشجر من قماش الأورغنزا أثناء المشي، تبدو من بعيد وكأنها صفحات مجلد ضخم فتحتها نسمات هواء لتحكي قصصا وروايات مثيرة، وتستحضر أيضا الراقصة «مارثا غارهام» بحركتها وفنيتها. فبينما ابتكرت مارثا لغة خاصة تعتمد على الحركة، للتعبير عما يختلج بداخلها من مشاعر متضاربة بين الحب والغضب والنشوة، ابتكر ستيفان هنا لغة تعتمد على حركة الأقمشة والطيات للتعبير عن جاذبية المرأة ورأيه فيها. وإذا كان جيورجيو ارماني قد أتحف الحضور بحقائبه المترفة، فإن ستيفان رولان، لم ينس أن الإكسسوارات مهمة، سواء كانت على شكل أحزمة أو على شكل جوارب مرصعة بالأحجار، ستكون بوتوكسا ناجحا يشد مظهر أي زي مهما كانت بساطته.