صوت فريدة يصدح بالمقام العراقي في دار الأوبرا الملكية

الأغاني البغدادية وحدت الجمهور العربي والغربي في لندن

فريدة جذبت الجمهور العربي والغربي خلال حفلها في دار الأوبرا الملكية بلندن («الشرق الأوسط»)
TT

غنت المطربة العراقية فريدة، والملقبة بسيدة المقام العراقي، ليلة أول من أمس على مسرح صالة دار الأوبرا الملكية وسط لندن، كما لو أنها لم تغن من قبل، أطلقت صوتها الممزوج بروح الطرب البغدادي الأصيل، وباحت بأشواقها لبلدها وأهلها ومدينتها، ففضحتها دموع مواطنيها من الجمهور الذي منح مشاعره كلية لتتفاعل مع مقامات النهاوند والنوى والدشت مؤثثة فضاء الصالة التي ما سمعت من قبل أغاني باللغة العربية وباللهجة العراقية، فأطربت كل الحاضرين من عرب وعجم.

تقول ياسمين: «هذه المرة الأولى التي نستمع فيها هنا في دار الأوبرا الملكية لغناء عربي عراقي، لم نفهم معاني الأغاني، لكننا ابتهجنا بروعة الصوت الأوبرالي الذي كان ينطلق من روح شرقية، فأحالتنا فريدة إلى سومر وبابل وألف ليلة وليلة»، ياسمين سيدة هندية في الخمسين من عمرها، حضرت مع زوجها لتستمع للمقام العراقي الذي قرأت عنه، وسمعت بعض نماذجه ضمن اهتماماتها الموسيقية.

جمهور فريدة تهيأ مبكرا للاستماع إلى صوتها ومقاماتها التي وحدت العراقيين، بل وحدت الجمهور العربي والغربي، فهي أبرز مطربة عراقية غنت المقام، وواصلت بإصرار على تجديده، متحدية منطقة غنائية كانت حكرا للرجال، بل للرجال الأقوياء بعضلاتهم الجسمانية والصوتية لما يتطلبه هذا النوع من الغناء من إمكانات أدائية عالية، لهذا فإن غالبية مشاهير قراء المقام التقليديين كانوا في الأصل يتدربون على رياضات جسدية، مثل المصارعة، ورفع الأثقال، وقبلهم كانوا يلعبون «الزورخانة» ويغنون، والزورخانة نوع من الرياضات التي كانت شائعة منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن الماضي.

تقول فريدة: «لقد جابهت مصاعب كثيرة، وعقبات من شأنها أن تثني أي مطربة عن مواصلة مشوارها الفني في أداء المقام العراقي، وغالبا ما كان التقليديون من قراء المقام ينفعلون حنقا عندما يستمعون لصوتي وأنا أؤدي بعض المقامات وهم يعلقون بأن المقام لم يخلق لصوت المرأة، والأكثر من هذا اعتبروا إصراري نوعا من التحدي والاعتداء على ممتلكاتهم». لكنها لم تتراجع، بل مضت بكل ما في روحها من إبداع، تقول «لم يكن هذا سهلا، فأنا أولا تسلحت في معركتي هذه، معركة برهنت جدارتي في أني مطربة مبدعة في غناء المقام العراقي وبقية فنون الغناء الأخرى، أقول تسلحت بالعلم، ودرست المقام العراقي أكاديميا، كما درست العزف على آلة العود في واحدة من أرقى المؤسسات التعليمية الموسيقية، معهد الدراسات النغمية (صار فيما بعد معهد الدراسات الموسيقية)، وكان بإشراف مباشر من الفنان الكبير، الراحل، منير بشير، حيث خرج هذا المعهد أجيالا من الفنانين العراقيين، وفي مسيرتي هذه كنت، وما زلت، محظوظة بدعم من زوجي الموسيقار محمد كمر، عازف آلة الجوزة التراثية، وأستاذها (الجوزة) في المعهد سابقا، كما لقيت دعم الفنان حسين الأعظمي، أستاذ المقام العراقي ومجدده».

الحفلة التي أحيتها فريدة وفرقة المقام العراقي في دار الأوبرا الملكية كانت خاتمة لجولة فنية لهم أحيوا خلالها ثلاث حفلات في مدن بريطانية، دشنت في مدينة ليفربول، ثم في شمال ويلز، ووصولا إلى لندن، وتصف فريدة هذه الجولة بالمتميزة «كوننا التقينا بجمهور إنجليزي إضافة إلى الجمهور العربي، وهذا الجمهور جاء ليستمع إلى نوع من الغناء غير مألوف بالنسبة له، من جهة، وبلغة لا يفهمها، من جهة ثانية، ومع ذلك عبر (الجمهور) عن إعجابه، وانسجامه مع المقام العراقي والأغاني البغدادية، وحفلة دار الأوبرا كانت الأكثر تميزا من حيث حضور الجمهور والتقنيات، ولأننا أول الفنانين العرب نغني على هذه الصالة، وأود أن أشكر من خلال صحيفتكم، التي دعمت وتابعت باستمرار حفلاتنا، الجمهور العربي والغربي الذي جاء مستمعا للمقام العراقي».

دفء صوت ومشاعر فريدة سرت في عواطف جمهورها فغنى معها بينما كانت ابتساماتها تعلن عن تواطؤ مشروع لإعلان هذا التفاعل من غير أن ترخي من قوة الأداء الأوبرالي الذي شد الجمهور الغربي من الحاضرين، فراحوا هم أيضا يصفقون مأخوذين بنشوة الصوت المتدفق.

غنت فريدة، وأحضرت معها ناظم الغزالي، وزهور حسين، ووحيدة خليل، وسليمة الملاية، لكنها استدعت كل ذكرى عمالقة الغناء العراقي هؤلاء بأسلوبها وروحها المميزة في الأداء، فغنت: «يا حمام النوح»، «طالعة من بيت أبوها»، «أي شيء في العيد أهدي إليك»، «يا الولد يا بني»، «يا صياد السمك»، «الليلة حلوة»، «سبحانه اللي جمعنا»، ومع دفق الغناء كانت بغداد تحضر، وكان دجلة يجري في ذاكرة الجمهور العربي من عراقيين وخليجيين ومشرقيين ومغاربة.

فرقة المقام العراقي التي أسسها كمر، وهي المرافقة باستمرار لفريدة وفي جميع حفلاتها منذ أكثر من عقد من السنين، منحت حفلة دار الأوبرا الملكية ميزة فنية خاصة، فهذه الآلات الموسيقية التي يعود تاريخ بعضها إلى الحضارة السومرية، مثل الجوزة، التي أبدع كمر العزف عليها، والسنطور، الذي يعد أساس فكرة بناء آلة البيانو الغربية، والذي قسم على أوتاره بروح إبداعية عالية الفنان القدير وسام العزاوي، وهو واحد من القلائل الذين يعزفون على هذه الآلة، إلى جانب الناي والإيقاعات، شكلت هذه الآلات جزءا مهما من تناغمية متبادلة ما بين صوت فريدة وموسيقى تنبعث من آلات تاريخية لكنها بدت معاصرة بفعل إبداعات العازفين.

يقول كمر «إن هذه الآلات قد تبدو بسيطة في شكلها لكنها معقدة للغاية في بنائها وفي أدائها الموسيقي، ومن المؤكد أن إبداع ومهارة العازف هي التي تحول أي آلة موسيقية إلى فعل إبداعي، وأينما نذهب نكون بمواجهة أسئلة الجمهور عن سحر هذه الآلات التراثية»، بينما يوضح العزاوي، عازف على آلة السنطور، والذي أصدر مؤخرا ألبوما موسيقيا تحت عنوان (سنطور من أور) بأن «السنطور يبقى آلة معاصرة على الرغم من أن تاريخه يعود لأكثر من أربعة آلاف عام، وهو شقيق القيثارة السومرية المعروضة في المتحف البريطاني، ومنه تم اشتقاق البيانو»، داعيا إلى «ضرورة الاهتمام بتدريس هذه الآلات أكاديميا كي يتواصل العازفون والجمهور معها».