عشاق عبد الحليم حافظ يستعيدونه صادحا في «مهرجانات بيت الدين»

جاءوا بالآلاف ليتذكروا زمن الحب الرومانسي الجميل مع عبده شريف

عبده شريف يستعيد عبد الحليم حافظ ببراعة في بيت الدين («الشرق الاوسط»)
TT

زحف عشاق عبد الحليم حافظ إلى «بيت الدين» بالآلاف أول من أمس. فالبعض حجز تذكرته منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، للحصول على مقعد في هذا الحفل المنتظر، رغم أن الغالبية الساحقة لا تعرف من هو عبده شريف الذي سيستحضر لها عندليبها الأسمر بعد 33 سنة من غيابه. الإعلان الذي كان يبثه التلفزيون لهذا الفنان المغربي وهو يغني لعبد الحليم حافظ، بدا فيه ساحرا. كل شيء كان يشي بأن الجمهور المتقاطر إلى بيت الدين جاء متحمسا وكأن العندليب سينتفض من قبره للقائهم في ذاك المساء الجبلي الجميل.

لكن المفاجأة تحولت إلى مفاجآت، وبمجرد ابتداء الحفل تبين أن إدارة المهرجان استقدمت العازف الشهير الذي كان يرافق عبد الحليم على الأورغ مجدي الحسيني لمواكبة الفرقة الموسيقية المؤلفة من نحو 50 عازفا بقيادة المايسترو إحسان المنذر. وتماما كما كان يفعل مع العندليب دخل مجدي الحسيني ووقف أمام أورغه في مقدمة الفرقة، وأخذ يعزف قافزا وكأنما هو يرقص بكله، محركا يديه بطريقته البهلوانية، مصدرا نغماته الأخاذة.

معزوفة «نبتدي منين الحكاية» كانت المقدمة، تلتها أغنية وطنية عروبية اختيرت بذكاء شديد لتعيد الحاضرين إلى زمن النضال والانتصارات «وطني حبيبي، الوطن الأكبر، يوم ورا يوم أمجاده بتكبر، وانتصاراته مالية حياته، وطني بيكبر وبيتحرر». هذا الأوبريت الجميل الذي غناه عبد الحليم مع شادية ووردة ونجاة الصغيرة وفايدة كامل من ألحان محمد عبد الوهاب عام 1960 يوم الاحتفال بوضع حجر الأساس للسد العالي، وجاء في خضم الأغاني الوطنية التي ازدهرت بعد الوحدة بين مصر وسورية. وعندما وصل الغناء إلى المقطع الذي يقول «وطني يا زاحف لانتصاراتك، يا اللي حياة المجد حياتك، في فلسطين وجنوبنا الساهر»، بلغ الحماس والتصفيق ذروتهما.

لكن القصد النهائي من الحفل ليس تقليب المواجع ونكء الجراح، وإنما إعادة الحاضرين إلى ذاك الزمن الرومانسي الحالم الذي احتل فيه الحب الصافي مساحات من مشاعر الناس، وشغلت خلاله آلام العاشقين وآمالهم المؤلفين والملحنين. جاءت أغنية «جبار» بما تحتاجه من قدرات صوتية وحنجرة مدربة طيعة، لتظهر إمكانات عبده شريف المتميزة. صدحت حنجرته في القصر التاريخي وكأنما لتملأ وديان جبل لبنان بالحب والشجن. وتوالت الأغنيات التي بدت وكأنها طالعة من زمن الغناء الكلاسيكي الذي ما عاد له من أثر يذكر في الغناء العربي الحالي، لا في طول الأغنية، ولا في تلوين الصوت ليعيد العبارة الواحدة ويكررها، بأنغام مختلفة يطرب لها «السميعة». لم يخذل عبده شريف مستمعيه، الذين جاء كل منهم ينتظر سماع أغنيته المفضلة. ها هو نزار يطل من شاشتين جانبيتين ليتحدث عن قصيدته «رسالة من تحت الماء» وغناء عبد الحليم. وها هو العندليب يطل ليتحدث عن الأرق الذي أصابه ليقدم هذه الأغنية المميزة بأفضل أداء ويقول «كل ليلة أجلس بيني وبين نفسي لأغير شيئا هنا، أو أبدل شيئا هناك، لا بد أن يكون الأداء جديدا».

يردد الحاضرون الآتون من مختلف الدول العربية، مع عبده شريف «لو أني أعرف أن الحب خطير جدا ما أحببت، لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت»، ويحتفون بفتنة الحب من «الرأس حتى أخمص القدمين» التي غناها العندليب. حماسة الجمهور لم تكن أقل لأغنية «جانا الهوا» فكل أغنية من هذه الأغنيات سكنت وجدان الحاضرين، وارتبطت بذكريات، وربما بقصص حب عاصفة عاشوها. نساء ورجال في الأربعين والخمسين كانوا يتمايلون وكأنما عادوا إلى زمن الشباب الأول وقصصهم الغابرة. خلت المدرجات من الشبان الصغار الذين لا يبدو أن عبد الحليم حافظ يعني لهم شيئا.

تتقدم إحدى السيدات من المنصة وتعطي لعبده شريف علم المغرب تحية لبلده ولأدائه، يستغرب البعض الذين يظنون، لغاية تلك اللحظة، أن هذا المطرب الذي يؤدي عبد الحليم على هذا النحو آت من مصر.

إحسان المنذر بمرافقته الموسيقية البارعة على البيانو منح الحفل رومانسية إضافية على أضواء بقيت وردية في أغلب الأحيان.

كثيرون كانوا ينتظرون «سواح»، وبمجرد أن توقفت الموسيقى وحيا عبده شريف الحاضرين، معلنا عن سعادته الغامرة لوجوده في بيت الدين، مرحبا بمن سماه عبد الحليم ذات يوم «عفريت الأورج» مجدي الحسيني، وجدها الناس مناسبة ليطالبوا بصوت عال بأغنيتين لا يريدون المغادرة دون سماعهما: «سواح» و«أهواك».. كان لا بد منهما لري عطش الحاضرين.

ولم ينته الحفل من دون أن يعود عبده شريف مرة أخرى ليعيد أداء «أهواك» للمرة الثانية، مع عزف موسيقي متميز للفرقة التي اعتبر أن أعضاءها هم من أبرع العازفين في العالم، معرفا بعازف على الكمان لا يتجاوز عمره الأربعة عشرة عاما قدم عزفا منفردا بارعا ومدهشا. «أحبكم» يقول عبده شريف قبل أن يغادر، بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وباللهجات اللبنانية والمغربية والمصرية، قائلا إنه عاجز عن التعبير عن مشاعره في هذه الليلة. ولا بد أن يتساءل أي حاضر للحفل عن سر هذه الخلطة العربية التي تجعل مغربيا يؤدي باللهجة المصرية عبد الحليم بهذا الإحساس العالي، وعن هؤلاء اللبنانيين الذي يعتبرون أغنيات مصرية تاريخهم وطفولتهم ووجدانهم.

واحدة من أكثر حفلات بيت الدين انتظارا لهذا العام تكللت بالنجاح، بعد تجربتين سابقتين إحداهما من آمال ماهر تحية لأم كلثوم، وأخرى للمغربية كريمة الصقلي لتكريم أسمهان، كانتا من أنجح حفلات هذا المهرجان الذي يقدم هذا العام روائع فنية عربية وغربية بمناسبة يوبيله الفضي.