وقف التسرب من «ماكوندو» هدّأ الأميركان.. والتوتر يصل إلى العلاقة الأميركية البريطانية

دادلي ابن ولاية مسيسيبي.. ورقة علاقات «بي بي» العامة الرابحة

TT

عندما أعلنت شركة «بريتش بتروليوم» (بي بي) تعيين الأميركي روبرت دادلي مديرا لها الأسبوع الماضي، تنفس كثير من المراقبين الأميركيين والبريطانيين نفسا عميقا. لا يمكن القول إن انفجار البئر النفطية التابعة للشركة في خليج المكسيك هز العلاقات التاريخية والقوية بين البلدين. ولكن يمكن القول إن الانفجار أثر عليها.

حل دادلي محل البريطاني توني هايورد، وأعلن سياسة جديدة لمواجهة ثلاثة مواضيع. الأول: التأكد من إغلاق البئر النفطية بعد أن وضع غطاء وزنه 80 طنا على فتحة البئر في قاع البحر.

الثاني: التأكد من تنظيف المنطقة من آثار التسرب، وتعويض كل من يستحق تعويضا.

الثالث: وهو الأهم، تحسين سمعة الشركة وسط الأميركيين.

ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» التغيير في عنوان كبير: «(بي بي) تعين أميركيا لتفتح صفحة جديدة»، وكتبت: «صار واضحا أن مشكلة (بي بي) أكثر من تسرب النفط، وإنها تحتاج إلى خبير ممتاز في العلاقات العامة».

وأضافت: «في نفس يوم اختيار دادلي، سجلت الشركة خسارة في الربع الثاني من السنة وصل إلى 20 مليار دولار. لا بد من التعجيل، ليس فقط لضمان قفل البئر، ولكن أيضا لرفع سمعة الشركة في الأوساط الاقتصاد العالمية».

ولاحظ مراقبون وصحافيون في واشنطن أن دادلي صار يواجه مسؤولية كبيرة في أكثر من مجال. وأن جنسيته الأميركية لن تكن معجزة تحل هذه المشكلات، لكنها ربما ستساعد. وذلك لأن الإعلام الأميركي، في نفس يوم اختياره، سارع وأشار إلى أنه تربي في ولاية مسيسيبي، وأن مسيسيبي واحدة من الولايات التي تتأثر بتسرب النفط.

في الحقيقة، ولد الرجل في نيويورك، وانتقل مع والديه إلى مسيسيبي حيث قضى عشر سنوات، ثم انتقلت العائلة إلى شيكاغو.

لكن، لا يهم، تكفي سنوات مسيسيبي ليرتاح الأميركيون القلقون قليلا، بأن واحدا من أبناء الجنوب الأميركي جاء ليحل أكبر مشكلة بيئية تواجه الجنوب الأميركي، بل كل الولايات المتحدة.

وأرسل تلفزيون «إن بي سي» مراسلا إلى هاتيسبرغ حيث عاش دادلي. وقال واحد من سكانها: «نحمد الله جاء واحد منا ليحل هذه المشكلة الكبيرة». وأضاف: «لا أكتم غضبا أو كراهية ضد الشركة البريطانية، لكن المسؤولين عنها ربما لا يعرفون كيف يحلون هذه المشكلة».

وفهم من كلام الرجل أن الأميركيين يفضلون واحدا منهم.

حتى قبل عشر سنوات، كان دادلي يعمل في شركات نفط أميركية. بعد أن نال ماجستير إدارة الأعمال من جامعة ساثورن ميثوديست (في ولاية تكساس)، عمل مع شركة «اموكو» الأميركية للنفط.

وكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة، عام 2000 انضم إلى شركة «بي بي». يعني هذا أنه عمل مع البريطانيين نصف الفترة التي عمل فيها مع الشركة الأميركية. وربما ما كان سيعمل مع البريطانيين لولا أن الشركة البريطانية اشترت الشركة الأميركية.

لكن، لم يكن رجل مدينة هاتيسبرغ هو الوحيد الذي انتقد البريطانيين وشركتهم.

حتى الرئيس باراك أوباما فعل ذلك، وبطريقة قال كثير من المراقبين والصحافيين إنها كانت فجة.

وأشار إلى الشركة باسمها الكامل «بريتش بتروليوم». وكان واضحا أنه يريد أن يقول إنها ليست أميركية. وكان واضحا أنه ربما كل الأميركيين ما كانوا يعرفون ذلك.

في المرة الثانية، قال إنه سيضع حذاءه على رقبة الشركة لتقفل البئر النفطية، ولتنظف المنطقة من التسرب. وكان واضحا أنه يريد أن يكسب الشعب الأميركي (في نفس الأسبوع، هبطت شعبيته إلى أقل مستوى منذ أن فاز بالرئاسة قبل عامين).

ثالث مرة، استدعي مدير الشركة البريطاني، توني هيوارد، إلى مكتبه، واتفق معه على رصد عشرين مليار دولار لتعويضات المتأثرين. وأصدر أوباما بيانا صحافيا جافا، فهم منه أنه هو الذي «أمر» البريطاني بذلك.

في ذلك الوقت، كتبت مجلة «تايم»: «وقع البريطانيون في شر أعمالهم. أخطأوا ولوثوا خليج المكسيك، وأغضبوا رئيسا يريد زيادة أسهمه وسط الأميركيين».

وأضافت: «لا يمكن اتهام أوباما بأنه تطرف كثيرا في الضغط على الشركة البريطانية. لكن يمكن اتهامه بأنه لم يضع اعتبارا للعلاقات التاريخية القوية بين البلدين». وأشارت المجلة إلى أن هناك اتهامات في بريطانيا بأن أوباما، أول رئيس أميركي أسود، لا يقدر أهمية هذه العلاقات بين بيض أميركا وبيض بريطانيا.

بل أسرع بعض قادة الحزب الجمهوري ودافعوا عن الشركة البريطانية:

لأن أوباما يريد زيادة شعبيته وسط الأميركيين بالضغط على الشركة، في الوقت الذي قالت فيه استفتاءات كثيرة إن الحزب الجمهوري ربما سيحصل على الأغلبية في انتخابات الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني).

لأن الحزب الجمهوري، عقائديا، أكثر عطفا على الشركات والمؤسسات الخاصة. ويشك في دور الحكومة، أي حكومة، في القدرة على إدارة الاقتصاد، أي اقتصاد. ولأن العلاقة توترت بين الحكومة الأميركية والشركة، أراد قادة الحزب الجمهوري أن يبرهنوا على أنهم أكثر تأييدا للقطاع الخاص من الحزب الديمقراطي.

ولأن شركة «بي بي» قدمت تبرعات كثيرة لسياسيين من الحزب الجمهوري. ورغم أنها قدمت تبرعات كثيرة أيضا إلى سياسيين من الحزب الديمقراطي، كان نصيب الحزب الجمهوري أكثر.

لكن، لا يمكن القول إن التوتر في العلاقات الأميركية - البريطانية بسبب «بي بي» سببه الأميركيون فقط. شاركهم البريطانيون، وعلى رأسهم هايوورد، مدير «بي بي».

لم يصدر بيانا يخاطب الشعب الأميركي بعد أيام كثيرة من انفجار البئر. وخلط بين بيان صحافي، وبيان شعبي.

ربما لا يتعود البريطانيون على أن يخاطبهم مدير شركة. لكن أتقن الأميركيون حرية الفرد، وجعلوا الفرد فوق الجماعة، وصار كل مواطن أميركي «ملكا داخل قلعته»، كما يقول المثل الأميركي. وصار هذا واضحا في تصريحات الأميركيين الذين تأثروا بتسرب النفط. أين المسؤول؟ لماذا لا يأتي إلى هنا؟ لماذا لا يأتي ليشرح لنا ما حدث؟

ولم يكن صدفة أن الرئيس أوباما زار ولايات التسرب مرات كثيرة، وخاطب المواطنين، ومرة ذهب إلى مطعم أسماك، وأكل من سمك البحر ليطمئن الأميركيين بأن النفط لم يسمم كل السمك.

لكن، غابت كل هذه الأشياء عن المدير البريطاني. وعندما قيل له إنه لا بد أن يخاطب الشعب الأميركي، قال إن الشركة تهتم بكل «مواطن صغير».

كما يقول المثل الأميركي، ضاع المعنى في الترجمة. ويبدو أن التعبير خان المدير. لكن ما قاله أشعل غضبا، جاء بعده غضب ثان.

جاء الغضب الثاني عندما نقلت التلفزيونات صور المدير البريطاني في رحلة بزورقه مع عائلته. كيف؟ نحن نعاني من تسرب النفط وهو يمرح؟ ألا يحس بما نحس؟ لا نقدر على استعمال زوارق صيد السمك وهو يستعمل زورقا ترفيهيا؟

بعد شهرين تقريبا من هذين الحدثين، بدا وأن هايوورد بدأ يفهم الأميركيين. ويوم إعلان تعيين الأميركي دادلي مكانه، مع بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول)، قال هايوورد للصحافيين: «يجب أن نكون واقعيين وعادلين. تأكد لي أن (بي بي) لا تستطيع أن تواصل عملها في الولايات المتحدة وأنا مديرها».

في الحقيقة، نسى أن مجرد خبر استقالته ربما زاد غضب الأميركيين عليه. وذلك لأن الخبر قال إن تعويضاته ستكون عشرين مليون دولار تقريبا.

لحسن حظ «بي بي»، ولحسن حظ العلاقات التاريخية عبر «بوند» (البحيرة)، وهذه كلمة عاطفية مدللة لهذه العلاقات، بدلا من كلمة «أوشن» (محيط)، لحسن الحظ فاز ديفيد كاميرون برئاسة الوزراء، وكالعادة، قال إن العلاقات التاريخية القوية على رأس أجندته الخارجية.

وعندما قابل أوباما في البيت الأبيض، كان موضوع «بي بي» هو الموضوع الرئيسي. وبدا أن الرجلين قررا فتح صفحة جديدة.

ونشرت صحيفة «واشنطن بوست» أن أوباما طلب من قادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس عدم التحقيق مع «بي بي» في اتهامات بأنها ضغطت على حكومة بريطانيا لإطلاق سراح الليبي عبد الباسط المقرحي (الوحيد الذي أدين في حادثة انفجار طائرة «بان آم» الأميركية فوق اسكوتلندا قبل عشرين سنة تقريبا). كانت الاتهامات تتركز في أن ليبيا اشترطت على «بي بي» إطلاق المقرحي لمنحها حقوق التنقيب عن النفط أمام ساحلها. لكن، مع بداية صفحة جديدة، تبقى مشكلات كثيرة.

بينما أعلنت «بي بي»، أمس، أن الخرسانة ستعقب الطمي الذي أغلقت به البئر النفطية التي أحدثت أكبر كارثة بيئية في تاريخ الولايات المتحدة، تظل سمعة الشركة المالية تعتمد على مستقبل قضايا تعويضات ربما ستصل إلى مائة مليار دولار.

وبينما أعلن مهندسو الشركة أن إغلاق البئر «انتصار كبير وحاسم»، وهي العملية التي سموها «ستاتيك كيل» (قتل صامت)، بدأ ما أسماه خبراء اقتصاديون «صداع ما بعد العملية»، في إشارة إلى قضايا تعويضات واستجوابات وتفسيرات تخص تلوث البيئة في خليج المكسيك، وتأثير ذلك على الاقتصاد المحلي، وتفاعلات الكارثة على سمعة الشركة، وعلى أسهمها في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك).

هذه مشكلة، والمشكلة الثانية هي إرضاء الحكومة الأميركية.

كان هناك خوف من أن بداية صب الطمي في البئر ستزيد ضغط النفط وتفشل العملية. وأيضا، كان هناك خوف من أن الطمي لن يكون ثقيلا إلى درجة التغلب على النفط. لهذا، شملت الاستراتيجية الهندسية تحت سطح البحر توفير كميات هائلة من الخرسانة والإسمنت لاستعمالها إذا انفجرت البئر بسبب الضغط، أو إذا ظهرت علامات أنها ستنفجر.

وكما قال كبير المهندسين بولتون، لم تكن هناك حاجة إلى الخرسانة في المرحلة الأولى. ولكنها ستستعمل في المرحلة الثانية لضمان إغلاق البئر نهائيا.

لكن، أصر الأدميرال ثاد ألين، قائد سلاح حرس السواحل، والمسؤول الحكومي الأول عن مراقبة إغلاق البئر ونظافة المنطقة، على الاستمرار في حفر البئرين الجانبيتين للوصول إلى البئر الرئيسية تحت قاع البحر.

يبلغ عمق كل من البئرين الجانبيتين عشرين ألف قدم. وتبدأ كل بئر من قاع البحر متجهة نحو المنطقة التي يوجد فيها النفط. لكن تنفتح البئر الرئيسية قبل ذلك. وبدأ حفر البئرين قبل أكثر من شهرين، ويتوقع وصولهما إلى فتحة في البئر الرئيسية مع نهاية الشهر الحالي، أو بداية الشهر المقبل. وإذا أصر الأدميرال ألين، سيضطر مهندسو الشركة للاستمرار في الحفر لتنفيذ ما يسمونه «بوتوم كيل» (القتل الأسفل)، في إشارة إلى أن الطمي والخرسانة سيصبان في البئر من مسافة أعمق تحت قاع البحر.

وقال ألين: «يجب أن لا يشك أي شخص في أهمية (القتل الأسفل). لن يكفي (القتل الصامت). أنا المسؤول عن هذه العملية باسم الحكومة الأميركية. وأنا قررت ذلك».

وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» إن الأدميرال ربما كان محقا أو غير محق. وذلك لأن إغلاق البئر بالخرسانة، بعد الطمي، ربما سيضمن إغلاقها تماما. لكن، يخشى مهندسون وخبراء نفط خطورة الاعتماد على الغطاء فوق فتحة البئر. ورغم أنه عملاق، ووزنه 80 طنا، ربما لن يقدر على مواجهة تقلبات ماء البحر، وبخاصة إذا هب إعصار قوي من النوع الذي ينتشر في خليج المكسيك.

وأشارت الصحيفة إلى سبب ثان للخوف، وهو أن استراتيجية الطمي استعملت قبل شهرين وفشلت. في ذلك الوقت، قال مهندسو الشركة إن السبب هو أن الغطاء لم يكن ثقيلا. كان وزنه عشرين طنا، بالمقارنة مع 80 طنا وزن الغطاء الحالي. وأضافت الصحيفة أن الأرجح هو الاستمرار في حفر البئرين الجانبيتين.

لكن، قالت صحيفة «واشنطن بوست» إن إغلاق البئر، مؤقتا أو نهائيا، لن ينهي مشكلات الشركة، خصوصا بالنسبة لنظافة المنطقة، وتعويضات الناس، وسمعة الشركة المالية.

وفيما يخص الجانب المالي، قالت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» إن سمعة الشركة وقيمة السهم فيها لن تعتمد فقط على إغلاق البئر، ولكن أيضا على قانون ستصدره الحكومة الأميركية ويناقشه الكونغرس الآن. لكن، قال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن الكونغرس ربما لن يصدر القانون قريبا، وذلك لأن هذا آخر أسبوع له قبل إجازة الصيف. التي ستمتد حتى منتصف شهر سبتمبر (أيلول)، بعد شهر ونصف الشهر تقريبا.

وكان قادة الحزب الديمقراطي قدموا مشروع قانون لتعديل قانون تعويضات الخسائر. بالنسبة لشركات النفط، حدد القانون القديم مبلغ 75 مليار دولار كحد أعلى لقضايا التعويضات. وحسب مشروع القانون، سيرفع الحد الأعلى إلى 100 مليار دولار.

لكن، مرة أخرى، هب قادة الحزب الجمهوري وحاولوا الدفاع عن «بي بي».

قالوا إن ذلك يفتح الباب أمام طلبات كثيرة وهامشية للتعويضات. بالإضافة إلى أنه سيؤذي شركات النفط الصغيرة. إذا أخطأت، وزادت قضايا التعويضات عليها، ربما ستعلن إفلاسها.

لهذا، قال مراقبون وصحافيون في واشنطن إن الحد الأقصى للتعويضات لن يحسم قريبا، وبخاصة مع اقتراب انتخابات الكونغرس. وبالتالي، سيؤثر هذا على سمعة شركة «بي بي» في الأسواق المالية، لأن رفع الحد الأعلي للتعويضات سيعرض الشركة إلى دفع مزيد منها، وسيزيد خسائرها.

وكتبت صحيفة «هيوستن كرونيكل»، أمس، عن هذا الموضوع تحت عنوان «صداع (بي بي) الجديد.. قضايا التعويضات». وقالت إن قضايا تعويضات ضد شركة «اكسون» بدأت قبل 20 سنة (عندما تسرب نفط من ناقلة نفط تابعة لها في ولاية ألاسكا) لا تزال مستمرة حتى اليوم. إن هذا يعني أن القضايا التي بدأت هذه السنة ضد شركة «بي بي» ربما ستستمر لسنوات كثيرة. و«لا بد أن تؤثر على مكانة (بي بي) الاقتصادية في الولايات المتحدة وفي العالم».

وأخيرا، رغم العلاقات التاريخية القوية عبر «البحيرة»، ورغم اختيار أميركي من ولاية مسيسيبي لإدارة شركة «بي بي»، يبدو أن مشكلات الشركة لن تنتهي قريبا. وليس سرا أن الأميركيين يسألون: ما الضمان أن إعصارا لن يفتح البئر مرة ثانية؟

حقائق وأرقام منذ انفجار «ماكوندو»

*107 أيام منذ انفجار البئر في خليج المكسيك

* 11 عاملا قتلوا في منصة «ديب ووتر هورايزون» المنفجرة

* 3.95 مليار دولار تكلفة التنظيف حتى الآن

* 20 مليار دولار تكلفة التعويضات المقدرة

* 34.7 مليون غالون من المياه الملوثة تم شفطها من الخليج

* 11 مليون غالون من النفط تم إحراقه في الخليج

* 632 ميلا من الشواطئ الأميركية المتضررة

* 5000 تقديريا من المخلوقات البحرية قتلت بالتسمم النفطي