أسرار غرق السفن والطائرات الحربية أثناء الحربين العالميتين في مياه الإسكندرية

قد يتحول إلىفيلم يتناول قصصها الانسانية

د. أشرف صبري بمركز الغوص الواقع على شاطئ البحر في الميناء الشرقي بمنطقة بحري («الشرق الأوسط»)
TT

على شاطئ البحر بالإسكندرية، وتحديدا في الميناء الشرقي بمنطقة «بحري»، يقع مركز غوص شهير أصبح منذ عدة سنوات قبلة للسياح ومكانا يستضيف فيه كبار المسؤولين المصريين ضيوفهم من العرب والأجانب، خاصة أولئك الشغوفين بالتعرف على أكثر قصص الآثار الغارقة إثارة وتشويقا.

صاحب المركز هو الدكتور أشرف صبري، المتخصص في طب الأعماق، والذي عاش بفرنسا حتى عام 2000 حيث درس الطب إلا إنه لم ينس حلمه القديم بتأسيس مركز غوص يتيح للغواصين من المحترفين والهواة الغطس فوق الآثار الغارقة في مدينة الإسكندرية.

خلال السنوات القليلة الماضية توصل د. أشرف لاكتشافات مثيرة في قاع البحر من طائرات وسفن حربية تعود إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما خاض رحلة مثيرة في تتبع قصص غرق المراكب الحربية الإنجليزية وفي البحث والوصول لأحفاد الغرقى والناجين الذين أمدوه ببعض الوثائق والصور التي تكشف عن قصص إنسانية سبقت ساعات الغرق، وهو ما يروي عن تفاصيله لـ«الشرق الأوسط».

يقول د. أشرف: «في الإسكندرية لدينا مدينتان كاملتان غارقتان تحت مياه البحر هما مدينتا (كليوباترا) و(هيراقليون)، فهناك شوارع بأكملها وآثار وتماثيل وأعمدة تحت البحر يراها الغواصون، فمدينة (كليوباترا) القديمة تقع تحت البحر بمنطقة الميناء الشرقي ببحري وتمتد حتى منطقة كليوباترا المعروفة حاليا، كما أن مدينة (هيراقليون) تقع أسفل البحر بمنطقة أبو قير وتحوي هذه المدينة مراكب نابليون الغارقة والمدافع الفرنسية وقذائفها، وهاتان المدينتان تعدان قبلة فريدة من نوعها للسياح الأجانب والعرب على حد سواء من محبي الغطس».

يواصل: «في فترة الشتاء يكون هناك هدوء نسبي في حركة السياح من راغبي الغوص في المدينتين الغارقتين، وهنا بدأت أفكر في أن أجعل نشاطي في الغوص متنوعا لجذب المزيد من السياح واستغلال فترة الشتاء في البحث عن اكتشافات جديدة ليغطس عليها السياح، ومع القراءة في التاريخ تنبهت أن فترة الحرب العالمية الأولى والثانية قد شهدت غرق الكثير من السفن الحربية الإنجليزية في مياه الإسكندرية وأن هذه السفن بالتأكيد قابعة في مكان ما بقاع البحر، وبالفعل قمت بمراسلة مراكز طب الأعماق في العالم وسألتهم إن كان لديهم معلومات عن مراكب غارقة في مدينة الإسكندرية، وبدورها قامت بعض هذه المراكز بمراسلة البحرية الإنجليزية، وبعد عدة أشهر تلقيت منهم كشفا طويلا بالبريد بأسماء السفن الحربية التي غرقت أو فقدت بالإسكندرية ومرفقا به اسم كل سفينة وتاريخ غرقها والأماكن التي من المحتمل وجودها بها في أعماق البحر».

عندما تلقى د. أشرف هذه المعلومات هلل فرحا ومعه كل طاقم العمل بالمركز، فقد حانت ساعة العمل الجاد بالنسبة لهم لإثبات تفوقهم ولإنجاح فكرتهم، وبالفعل بدأوا عملا جادا وشاقا نفذوا فيه آلاف الغطسات تحت البحر، وخلال مدة لا تزيد عن 9 أعوام منذ عام 2001 وحتى الآن تمكنوا من اكتشاف 14 سفينة غارقة من المراكب الحربية الإنجليزية من الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما تمكنوا أيضا من اكتشاف عدد من الطائرات التي سقطت في قاع البحر، كما استطاع د. أشرف من توثيق تاريخ كل سفينة غارقة واسمها وأسماء من كانوا على متنها من الغرقى والناجين، ورواية تفاصيل دقيقة عن قصة غرقها ووصف للساعات الأخيرة قبل الغرق، وفي كل خطوة كان يدعم اكتشافه بالمستندات التي كان الوصول إليها أمرا شاقا حسب قوله.

حول الطريقة التي اتبعها ليصل لحقيقة قصص الغرق الحقيقية لكل سفينة يقول: «كنت مهتما بالكشف عن قصة الغرق لكل سفينة وهو أمر رأيته في منتهى الأهمية لإطلاع السائح عليه قبل أن تبدأ رحلة الغطس ليعرف حينما يكون تحت الماء ما الذي يشاهده بالتحديد ويدرك حقيقة قيمته التاريخية، وقد بدأت رحلة البحث من دار الوثائق المصرية ودار الكتب بالقاهرة للتعرف على تاريخ السفن الغارقة منذ الحربين العالميتين بوجه عام، ومن خلال قراءاتي اكتشفت معلومة لم تكن معروفة من قبل ألا وهي أن الإسكندرية كانت في وقت الحرب بين العالميتين تعرف بـ(مستشفى الحرب) بمعنى أن كل ما يحدث من جروح أو إصابات للجنود التابعين لجيوش الحلفاء في منطقة البحر الأبيض المتوسط يتم علاجه بالإسكندرية، حيث كانت المدينة كلها بكل مدارسها ومساجدها وكنائسها وشواطئها الرملية وحتى عربات القطارات قد تحولت لمستشفى كبير جدا على امتداد المدينة لعلاج الجرحى».

يستطرد: «كنت أقرأ الوثائق التاريخية بكل اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وهو ما جعل لدي خلفية تاريخية كبيرة عن حقبتي الحربين العالميتين وهو الأمر الذي جعل عددا من كبار علماء الآثار في مصر يرشحونني لعدد من مسؤولي وزارات الخارجية بعدد من الدول الأوروبية كإنجلترا وفرنسا وإيطاليا للإشراف على تجهيز احتفالية عالمية ضخمة بالإسكندرية عام 2014 بمناسبة مرور مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى».

ويتابع الدكتور صبري راويا كيفية توصله للقصص الحقيقية والتفصيلية لغرق كل سفينة من السفن التي اكتشفها قائلا: «اكتشفت من خلال قراءاتي بالكتب الوثائقية والتاريخية أن الضحايا الذين لقوا حتفهم في هذه السفن قد تم دفنهم بمقابر الكومنولث بمنطقة الحضرة بالإسكندرية، فذهبت على الفور لهذه المقابر وطلبت من الموظفين المسؤولين هناك أن يطلعوني على دفاتر الزيارات لعدد من الجنود والضباط الإنجليز الذين دونت اسم السفينة التي غرق كل منهم على متنها، ووجدت بدفتر الزيارات كل من دون اسمه قد كتب عنوان مراسلاته وهو أمر متعارف عليه حتى يتم إبلاغه بأي تلف قد يصيب مقبرة آبائه أو أجداده، وبالفعل قمت بمراسلة جميع من وجدت أسماءهم، وأذكر أني قد أرسلت ما يزيد على ألف خطاب، وبعدها بدأت أتلقى ردودا إيجابية تحوي تفاصيل دقيقة عن قصص الغرق لكل السفن كما عرفها الأهل سواء من زملاء أجدادهم الذين نجوا أو من خلال قيادات عسكرية إنجليزية اجتمعت بالأهل لإطلاعهم على تفاصيل الغرق».

ويختص د. أشرف «الشرق الأوسط» بنسخة من خطاب قديم كتبه ضابط إنجليزي برتبة ضابط ثان بتاريخ 3 مارس من عام 1918، يروي فيه لأهل حبيبته وهي ممرضة على السفينة «إس إس أراغون» التي يعمل بها هو أيضا الأهوال التي صاحبت عملية الغرق ويطمئنهم على نجاة ابنتهم من الحادث، وبرأي د. أشرف يعد هذا الخطاب إحدى أهم الوثائق التاريخية التي أرسلها له أهالي الناجين الذين راسلهم، حيث كان حطام السفينة «إس إس أراغون» أحد اكتشافاته تحت بحر الإسكندرية. يتضمن الخطاب القصة التفصيلية لغرق السفينة «إس إس أراغون» في 30 ديسمبر (كانون الأول) من العام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث يروي الضابط لأهل حبيبته الممرضة على ذات السفينة والتي كان يناديها «نانسي» وكان اسمها الحقيقي «ميس أجنيس ماكول هاناي» أن ابنتهم لم تمت كما كتبت الصحف وقتها وأنها قد نجت من الموت بأعجوبة، وروى لهم أن السفينة قد بدأت رحلتها من ميناء ساوث هامبتون بإنجلترا متجهة إلى ميناء مرسيليا بفرنسا لجمع باقي الجنود ولتحميل المؤن من طعام وأدوية، وأن السفينة كان على متنها 2700 ضابط وجندي من قوات الحلفاء، كما ذكر الضابط في الخطاب كيف أن البحرية الإنجليزية قد خصصت مدمرة عسكرية اسمها «أتاك» لحماية السفينة التي تحمل الجنود للتصدي لأي هجوم قد تتعرض له في طريقها إلى الإسكندرية، ويواصل الضابط في خطابه أن السفينة وصلت إلى جزيرة كريت أثناء رحلتها، وكان يتوافق يوم وصولها مع أعياد الكريسماس، وهناك كانت المرة الأولى التي تعرف فيها على حبيبته الممرضة نانسي وقد تناولا عشاءهما معا كما رقصا حتى الصباح، ويتابع الضابط الإنجليزي في خطابه: «اتجهنا إلى مدينة الإسكندرية المصرية وبجوارنا المدمرة التي تقوم على حمايتنا من أي هجوم».

ويروي الضابط أنه قبل بلوغ ميناء الإسكندرية بـ80 كيلومترا كانت هناك غواصة ألمانية تنتظر السفن القادمة من أوروبا لضربها قبل دخولها إلى الإسكندرية، وبالفعل أطلقت الغواصة الألمانية طوربيدا نحو السفينة «إس إس أراغون» ومات نحو ألف جندي وضابط وممرضة جراء هذا الهجوم بينما لم يمت الضابط والممرضة وآخرون، حيث سارع الناجون بركوب قوارب صغيرة لينتقلوا إلى المدمرة التي تحميهم ويصعدوا فيها، وبالفعل استطاع الضابط الإنجليزي أن ينزل حبيبته من السفينة قبل غرقها ويجعلها تصعد إلى أحد القوارب ثم يبدأ مهمة إنزال الباقين بينما السفينة تأخذ في الغرق شيئا فشيئا، وخلال قيامه بنقل الناجين إلى القوارب جاء الدور على كابتن السفينة أو القبطان وكان رجلا كبيرا في السن بالنسبة للضابط الشاب حيث مد الضابط يده للقبطان لينزله في اللحظات الأخيرة قبل غرق السفينة التي لم يكن بينها وبين الغرق الكامل سوى عدة سنتيمترات إلا أن الضابط فوجئ بالقبطان وقد اغرورقت عيناه بالدموع رافضا النزول من السفينة ويؤدي له التحية العسكرية ويغرق مع السفينة وهو الأمر الذي يعرفه العسكريون بأنه شرف البحرية أن يغرق القبطان مع سفينته ولا يغادرها أبدا، وبالفعل فقد أصر القبطان على أن يغرق مع سفينته وما كان من الضابط إلا أن رد له التحية العسكرية وهو يبكي. ثم يسرد الضابط في الخطاب ما حدث بعد ذلك بقوله إنه انتقل إلى المدمرة العسكرية مع حبيبته الممرضة وبعد أن استقرا بها مع الناجين يفاجأ الجميع بطوربيد ألماني جديد يتم إطلاقه على المدمرة ليشطرها نصفين، وقد نجا الضابط والممرضة مرة أخرى وقفز الجميع إلى البحر، إلا أن الألمان كانوا قد زرعوا ألغاما في البحر وقد انفجرت بعضها في بعض من قفزوا، بينما اضطر الباقون لحبس أنفاسهم وعدم التحرك في الوقت الذي تحول لون البحر فيه إلى اللون الأحمر. ووسط هذا الجو المليء بالرعب والموت يطل أمل النجاة من جديد ولكن هذه المرة عن طريق الصيادين والأهالي المصريين البسطاء الذين استطاعوا إخراج الناجين من تفجير المدمرة الإنجليزية وقد تعجب الضابط من هذا المشهد الذي لم تصدقه عيناه وتساءل مع زملائه كيف لهؤلاء المصريين إنقاذ من أتوا لاحتلال بلادهم، لكن وكما أجابه بعض الصيادين المصريين على سؤاله بكل بساطة أن الروح هي الروح وإنقاذ حياة إنسان هو أمر فطري وطبيعي بغض النظر عن جنسيته وديانته، وهو أمر أدهش الضباط الإنجليز حيث كانوا في هذا الوقت يظنون أن المصريين ما هم إلا مجموعة من الجهلة غليظي القلب الأمر الذي ثبت لهم عكسه، حتى أن الصيادين الذين كانوا يحفظون أماكن الألغام بالفطرة والتجربة عن ظهر قلب استطاعوا إخراج الناجين من الضباط والجنود والممرضات الإنجليز بحرفية شديدة، بل كان هؤلاء الصيادون يتنافسون فيما بينهم على من يستضيف مجموعة من الناجين في بيته.

المفاجأة التي يطلعنا عليها د. أشرف هي أن الضابط الإنجليزي كاتب الخطاب والممرضة نانسي لم يتزوجا وفرقتهما الحياة بعدها، حيث اضطر هو إلى ترك الإسكندرية ليذهب إلى إنجلترا ليتم تعيينه على سفينة أخرى، بينما بقيت نانسي بالإسكندرية والتي كانت بمثابة مستشفى الحرب، والمفاجأة الثانية أن أهل الممرضة نانسي قد أرسلوا للدكتور أشرف صورا للممرضة في شبابها وصورها بعدما بلغت الثمانين من العمر حيث توفيت في نهاية الثمانينات، وقد ضمن الدكتور أشرف كل هذه الوثائق والصور في كتاب من الحجم الكبير باللغة الإنجليزية سماه «ذي جراي شادوز» أو «الظلال الرمادية» وسوف يتم طرحه قريبا ليكون في متناول القراء حول العالم قبل نهاية هذا العام.

ويذكر د. أشرف لـ«الشرق الأوسط» أنه قد تحدث إلى الفنان المصري العالمي عمر الشريف عن هذه القصة وأرسل له تفاصيلها التي حواها الخطاب، وقد تلقى ردا كتابيا من الشريف يعلن فيه تحمسه للقيام بدور قبطان السفينة الذي صمم على الغرق معها تطبيقا للعرف العسكري البحري بموت القبطان مع سفينته وعدم القفز أو الهرب منها، وكشف الدكتور أشرف صبري عن حضور المخرج الأميركي العالمي ستيفن سبيلبرغ إلى الإسكندرية أوائل يناير (كانون الثاني) المقبل للاجتماع معه والفنان عمر الشريف لوضع اللمسات النهائية للإعلان عن الخطوات التنفيذية للفيلم المزمع إنتاجه حول قصة السفينة «إس إس أراغون».