العوائل الكردية تفضل متابعة المسلسلات المصرية أكثر من العراقية

أسباب التأثير أو ما يسمى بـ«الغزو الثقافي» إخفاق الحكومات المحلية في تقديم إنتاج ثقافي ينافس الثقافة المستوردة

مسلسلات رمضان في كردستان «العار» و«زهرة» في المرتبة الأولى مع غياب المسلسل العراقي («الشرق الأوسط»)
TT

قديما كان التلفزيون المركزي في بغداد وبقناته الوحيدة هو السلوى الوحيدة للعائلات العراقية في ليالي رمضان، وإن كان معظم برامجه وأفلامه ومسلسلاته محدودة للغاية بسبب سيطرة الدولة على هذا المنبر الترفيهي، واستخدامها لوسائل الإعلام بما فيها التلفزيون كوسيلة من وسائل التعبئة السياسية للتأثير على المجتمع. وعلى عكس هذه الأيام أصبحت أخبار السياسة آخر ما تهم العوائل العراقية، وخصوصا أن معظمها تحمل الهم والغم للعراقيين، سواء بنقل مشاهد الدماء اليومية التي تصطبغ بها شوارع المدن العراقية، أو أنباء مناطحات قادة العراق وصراعاتهم حول السلطة ومن يكون رئيسا للوزراء، وهي صراعات تحولت إلى أحجية غريبة يعجز العراقيون بكل نباهتهم وفطنتهم أن يفكوا ألغازها.

بعيدا عن هموم السياسة وانشغال السياسيين العراقيين بمشاحناتهم، تقضي العائلة الكردية في إقليم كردستان جل وقتها في الجلوس أمام شاشات القنوات الفضائية التي يندر أن تجد عائلة حتى في أقصى أقاصي كردستان لا تملك صحنا لاقطا لتلك القنوات. والصوم وارتفاع درجات الحرارة ساهما بدورهما في لزوم معظم العوائل لبيوتهم، مما زاد في ارتفاع معدل ساعات المتابعة للمسلسلات الرمضانية.

ومع انقطاع المواطن الكردي لما يقرب من عقدين عن الإعلام العراقي، وعما ينتجه ذلك الإعلام، بحكم الإدارة شبه المستقلة التي تحظى بها كردستان منذ عام 1991، وبالتالي انقطاع سبل التواصل مع الثقافة العراقية، ترى كيف تتابع العائلة الكردية الإنتاج الإعلامي المعروض عليها في القنوات الفضائية، خصوصا في هذا الشهر الذي يزدحم فيه الإنتاج الفني من مسلسلات وبرامج تغزو البيوتات في جميع الدول العربية.

فشهر رمضان هو الموسم الأكثر اجتذابا لمشاهدي القنوات التلفزيونية، لذلك استغلت «الشرق الأوسط» حلول هذا الشهر لتستطلع اهتمامات العائلة الكردية بتلك البرامج والمسلسلات التي تزاحم بعضها في هذا الشهر الفضيل.

لتشخيص اهتمامات العائلة الكردية بالأعمال الفنية المستوردة، سنعود إلى الوراء قليلا لنتذكر أنه في مبتدأ التسعينات عندما كانت القنوات التلفزيونية المحلية التي بدأت في الانتشار في مدن كردستان، حيث كانت العائلة الكردية تركز اهتمامها في ذلك الوقت على المسلسلات المكسيكية والإسبانية المدبلجة إلى اللهجة اللبنانية، ولكن مع تحسن الأوضاع المعيشية بعد ذلك وخصوصا منذ سقوط النظام السابق أدى إلى تغير الحال والأحوال، حيث لوحظ تهافت العوائل على شراء الصحن اللاقط، وبذلك أصبحت جميع القنوات العربية متاحة أمامهم، وتغيرت تبعا لذلك اهتمامات تلك العوائل بما تعرضه القنوات من الأعمال والمسلسلات العربية.

المجتمع الكردستاني حاله حال معظم المجتمعات العربية المحيطة به، ينتظر بشغف واهتمام العروض التي تقدم في شهر رمضان، فنسبة المشاهدة ترتفع في الإقليم سنة بعد أخرى رغم وجود منافذ أخرى للتنفيس والترفيه في ليالي رمضان، لكن العائلة الكردية عموما تحب أن تمضي وقتها أمام التلفزيون بدلا من الخروج إلى المتنزهات والحدائق العامة. فقد بدأ الاهتمام يتجه نحو المسلسلات العربية، خصوصا الرمضانية التي تستقطب أعدادا هائلة من المشاهدين في كردستان، واللافت أن المسلسل المصري يتصدر دائما لائحة اهتمامات المشاهد الكردي على حساب المسلسل العراقي. السبب في ذلك هو سهولة فهم اللهجة المصرية، وطبعا يعود ذلك إلى كثرة الأعمال المصرية المعروضة على معظم الشاشات العربية.

وتقول سوسن محمد أمين، وهي فتاة في الخامسة عشرة من عمرها: «لقد أصبحت مترجمة محترفة لعائلتي، يتجمعون حولي وأنا أترجم لهم حوارات تلك المسلسلات».

أما هفال محمد، وهو شاب في العشرينات من عمره، فيقول: «لم أزر بغداد في حياتي، بل إنني لم أر إلى الآن مدينة عراقية واحدة، ودراستي باللغة الكردية، فمن أين أتعلم اللهجة العراقية؟ كما أنني من خلال متابعاتي للمسلسلات والأفلام المصرية أصبحت أفهم اللهجة المصرية التي تعلمتها رويدا رويدا بفضل المتابعة المستمرة بشكل أفضل من فهم اللهجة العراقية، ثم إنه ليس في الأعمال العراقية التي أشاهد القليل منها بشكل عابر ما يغري بالمتابعة».

ولكن جلال حسن، وهو في الخامسة والخمسين من العمر يخالف هذا الشاب الكردي ويكشف عن حنينه للمسلسلات والمسرحيات العراقية، ويثير مواجعنا بتذكر تمثيلية «تحت موسى الحلاق» للحاج راضي والعبوسي، ومسرحية «إيدك بالدهن» لقاسم الملاك ووجيه عبد الغني. ويقول: «رغم أن التلفزيون كان أبيض وأسود، ولكننا كنا نتمتع بهذه الأعمال العراقية الأصيلة والرائعة التي أبدع فنانونا بتقديمها قبل أن يفرض دكتاتور العراق سياسته الشمولية على كل مجالات الإبداع الفني والثقافي ومصادرة روح الإبداع لدى الفنانين العراقيين». ويستطرد «انظر إلى الأغنية العراقية الأصيلة التي كنا نسمعها في الستينات والسبعينات، وقارنها بالأغاني الحالية التي تتحدث عن كارتات الجوال، وعد إلى كلمات تلك الأغاني وقارنها بالشتائم واللعنات التي تنعل أبو أبو اللي ما أعرف منو!!». ويتحسر العم جلال على أيام الزمن الجميل الذي كان كل شيء فيها جميلا ومبدعا. ويضيف: «قد يكون أبناء الجيل الحالي على حق في عدم معرفتهم بالفن العراقي الأصيل، ولكني أعتقد أن ظروف الحرب وسنوات الحصار وسياسة الدولة الفاشية ساهمت بمجملها في تراجع الإنتاج العراقي لحساب الإنتاج المستورد، ولذلك ينبغي النهوض مجددا لكي لا ينسى الشباب من هذا الجيل انتماءهم إلى وطنهم، ينبغي ذلك، فما نستقبله في بيوتنا اليوم لا يتوافق مع قيمنا الاجتماعية وثقافتنا العراقية الأصيلة».

في استطلاعنا لاحظنا أن معظم العائلات الكردية كانت قد اختارت لنفسها المسلسلات التي ستتابعها في هذا الشهر الكريم من بين هذا الكم الهائل من المسلسلات الرمضانية التي فاقت 60 مسلسلا، وطبعا هذا بتأثير العروض الإعلانية لتلك المسلسلات، فتقول السيدة بيخال كريم (ربة بيت): «لقد تابعت في السنوات الأخيرة مسلسل (باب الحارة) وحسنا فعلوا بإخراج الجزء الخامس منه هذا العام، وأنا أتابع هذا المسلسل إلى جانب المسلسل المصري (العار) و(زهرة وأزواجها الخمسة). لقد شاهدت الفيلم الأصلي وأعجبني وأريد متابعة المسلسل فقصته جديرة بالمتابعة».

وتقول نازدار، وهي أيضا ربة بيت: «(العار) و(زهرة وأزواجها الخمسة) هما المسلسلان اللذان أتابعهما هذا الشهر، وهما مسلسلان جيدان جدا».

اختار سامان محمد مسلسل «العار» ويقول، وهو طالب جامعي: «موضوع المسلسل جيد ويتحدث عن المال الحرام كما قرأت على الإنترنت، وهذا ما جذبني إليه، ولكن بحكم أن عائلتي تتابع مسلسل (زهرة وأزواجها الخمسة) فأنا مضطر أيضا إلى متابعة ذلك المسلسل، وأرى أن موضوعه طريف أيضا وسأتابعه للأخير».

ويشير أحمد (موظف) إلى أنه في العام الماضي تابع مسلسل «الباشا نوري السعيد»، وكان مسلسلا ناجحا في رأيه، وقال: «(الباشا) كان أول مسلسل عراقي أتابعه من بين الأعمال العراقية، ولكن المشكلة أن العائلة بأكملها منجذبة إلى المسلسلات المصرية، ومن الصعب علي أن أفرض عليهم متابعة ما يشدني من المسلسلات العراقية، ثم هي حقيقة وليست مبالغة إذا قلنا إن العوائل الكردية تفضل متابعة المسلسلات المصرية أكثر من العراقية، وأعتقد أن فهم اللغة يلعب دورا مهما في هذا المجال، فأغلب العروض باللهجة المصرية، وأصبح الكثيرات من نسوتنا يفهمن تلك اللهجة، لذلك يخسر العمل العراقي بريقه، رغم أنني أحبذ لعائلتي أن تتابع المسلسلات العراقية لأننا ننتمي إلى بلدنا العراق، ولكن ليس في يدي حيلة، فالمسلسلات المصرية تغزو بيوتنا رغما عن أنوفنا، ولا حول لنا ولا قوة على ردها».

أصبح مسلسلا «العار» و«زهرة وأزواجها الخمسة» ظاهرة في حد ذاتها، حيث لاحظت «الشرق الأوسط» من خلال استطلاعها أن معظم العوائل الكردية تتابع هذين المسلسلين.

ولكن ذلك لم يمنع الكاتب والصحافي الكردي، طارق إبراهيم شريف، من أن ينشد إلى مسلسل عراقي جديد يروي قصة آخر ملوك العراق فيصل الثاني، ولا يخفي إعجابه الكبير بهذا المسلسل الذي يشترك فيه عدد كبير من الممثلين العرب. ويقول: «إن هذا المسلسل يضعك في أجواء الحقبة الملكية، ويبدو أن إمكانات هائلة توافرت أمام القائمين عليه من حيث توفير الملابس المعهودة في ذلك الزمن، وكذلك الديكورات التي تجسد قصر الرحاب وقصر الزهور وغيرهما من مواقع الأحداث»، ويستطرد: «الأهم من كل ذلك أنني لا أدري كيف وفقوا في اكتشاف ممثل يكاد الشبه بينه وبين الملك العراقي يصل إلى حد التطابق، وأداء هذا الممثل باهر جدا، فلا تشعر معه إلا وأنت في حضرة جلالة الملك فيصل الثاني من خلال طريقة حديثه وتصرفاته».

انبهار هذا الكاتب بالمسلسل واختياره من بين 60 مسلسلا آخر يعود إلى اهتمامه ككاتب متخصص في تاريخ العراق المعاصر، وخصوصا أنه يتهيأ لإصدار كتاب يوثق تاريخ حياة الملك فيصل الثاني، وقد تعاقد مع دار نشر أردنية على طبعه، إذن فهو يتابع المسلسل بنظرة الكاتب والناقد، ولذلك سألناه فيما إذا رصد أي أخطاء في هذا المسلسل، وخاصة أن الكثير من مسلسلات السير الذاتية يحدث فيها مثل هذه الأخطاء، فيرد قائلا: «إلى هذه اللحظة وأنا أتابع الحلقة الخامسة من المسلسل لم أجد فيه أي أخطاء، أو ما يخالف الحقائق التاريخية الموثقة للعهد الملكي، خاصة فترة حكم الفيصل الثاني الذي يوثق المسلسل سيرته الذاتية، وهذا دليل على أن كاتبه بذل جهدا كبيرا في توثيق تلك السيرة للملك بمهنية وحرفية عالية، واستند إلى وثائق ومعلومات موثقة، ولكن مع ذلك لا يمكن أن نستبق الأحداث، دعنا نتابع للأخير عندها إذا وجدنا فيه أي أخطاء قد نحددها بمقال».

إذا جاز لنا وصف الحالة الحالية بغزو ثقافي عربي للمجتمع الكردستاني من خلال المسلسلات والأعمال الفنية، كان لا بد من استطلاع رأي المتخصصين في مجال الدراسات الاجتماعية، لذلك سألنا حسن ياسين الباحث الاجتماعي المتخصص في مركز الدراسات الاستراتيجية في كردستان عن تأثيرات هذا الغزو، فقال: «المجتمع الكردي هو جزء من المجتمع العراقي عموما، ومنذ مئات السنين تتأثر الثقافة الاجتماعية الكردية بالثقافة العربية العراقية، فعلى سبيل المثال، الكردي الإيراني الجالس في مدينة مهاباد لا يتابع في المحصلة مسلسلا مصريا أو خليجيا، مثلما يتابعه الكردي العراقي، إذن نحن جزء من الثقافة العراقية ما دمنا نعيش في إطار الدولة العراقية، ولكن المشكلة أن وجود مئات القنوات الفضائية العربية التي تعرض في معظمها أعمالا ومسلسلات مصرية تغزو البيوت، وكل ذلك على حساب الأعمال والمسلسلات العراقية، سيفرض علينا، شئنا أم أبينا، نوعا من الثقافة المصرية على المجتمع الكردستاني، وطبعا ليست الحالة خاصة بكردستان، بل إن معظم الدول والمجتمعات العربية تتأثر بهذا الغزو وبهذه الثقافة المفروضة عبر الأعمال الفنية، في المحصلة نستطيع القول بأن هناك هيمنة مصرية على المجتمعات المجاورة، بما فيها المجتمع الكردستاني».

ويعزو ياسين أسباب الاستجابة لهذا التأثير أو ما يسمى بـ«الغزو الثقافي» إلى إخفاق الحكومات المحلية في تقديم إنتاج ثقافي ينافس الثقافة المستوردة، ويقول: «إذا أخذنا الأعمال العراقية على سبيل المقارنة نجد أنها لم ولن تستطيع أن تنافس الإنتاج المصري، فإذا أخذنا ظروف الحرب وسياسات الأنظمة الشمولية والعسكرية المتعاقبة على الحكم في العراق، وإخضاع الإعلام والثقافة إلى السيطرة المركزية للدولة، بنظر الاعتبار، سنجد أن هناك تخلفا واضحا في تقديم الإنتاج العراقي، على عكس سنوات الخمسينات والستينات وإلى حد ما السبعينات من القرن الماضي. وفيما يتعلق بكردستان، لاحظتم أن مسلسلا واحدا كرديا الذي قدم خلال العامين الماضيين، وهو مسلسل (كردلول) والذي يروي مسيرة الشعب الكردي النضالية، استقطب مشاهدة واسعة وشعبية قل نظيرها، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: ماذا قدمت وزارة الثقافة في هذا المجال؟ وكم مسلسلا أو عملا فنيا رعته الوزارة وقدمت الدعم له؟ الجواب هو الصفر، ناهيك عن قلة الدعم الحكومي للإنتاج الفني للقطاع الخاص، سواء في كردستان أو العراق، وبالطبع في حال غياب المنتج المحلي فإن الناس سيذهبون إلى الإنتاج المستورد بكل ما يحمله من مساوئ وتأثيرات هائلة على تكوين ثقافة المجتمع، سواء المجتمع الكردستاني أو المجتمع العراقي».