دواوين العائلات في صعيد مصر.. مؤانسة رمضانية تلم شمل الكبار والصغار

أصبحت تنافس المقاهي والدراما التلفزيونية

الدواوين العائلية مؤانسة رمضانية تلم شمل الأهل والأصدقاء، وطاولة مفتوحة لفعل الخير («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من تعدد مظاهر رمضان في قرى ومحافظات مصر، فإن له في جنوب البلاد طعما خاصا، حيث تحرص معظم الأسر على قضاء سهرات رمضان في دواوين العائلات (دار المناسبات)، وعلى الرغم من المنافسة الشديدة من التلفزيون والمقاهي لجذب أكبر عدد من المواطنين، فإن سهرات الدواوين لها طبيعة ساحرة تأسر قلوب المحبين وتغري الصغير قبل الكبير على الحضور، فالدواوين لم تقف عاجزة أمام التطور والحداثة التي طرأت على كل شيء في مجتمعنا، بل عملت على تطوير مضمون السهرات وشكلها العام، فمعظمها يقوم حاليا بالتعاقد مع مقرئين متميزين لتلاوة ما تيسر لهم من الذكر الحكيم، بالإضافة إلى استضافة بعض الندوات التثقيفية للشباب، وعقد مسابقات لحفظ القرآن الكريم، وتقديم الجوائز للكبار والصغار، وزادت بعض الدواوين على ذلك بإحضار مبتهلين وخطباء لإحياء الليالي الرمضانية.

والديوان أو (دار المناسبات) عبارة عن مبنى واسع مكون من طابق واحد في أغلب الأحيان، به بعض الغرف البسيطة منها غرفة للمقرئ، وأخرى لكبار الزوار، ودورة مياه، ومطبخ، وباقي المساحة مفتوحة، لاستقبال الضيوف فيها يتم فرشها بـ«الكنب» (الأرائك) المصري ذي المساند الثلاثة، ويشترك في إنشاء هذا المبنى أفراد العائلة في القرى، أما في المدن فتقوم مجموعة بإنشائه وتأجيره بعد ذلك للأفراح والجنائز والمناسبات الرمضانية.

يقول الحاج حمدي محمد حسن، عميد عائلة أبو قريع: «الدواوين في القرى تفتح أبوابها للجميع في أي وقت من السنة ما دام أن هناك مناسبة سعيدة أو حزينة تقتضى فتحها، إلا أن الوضع في شهر رمضان يختلف تماما، فهي تستعد لشهر رمضان قبله بعدة أيام لما له من مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، فيقوم شباب العائلة بعملية نظافة شاملة للديوان وتزيينه بالزينات الرمضانية الجميلة، والتعاقد مع المقرئين والمبتهلين والخطباء لإحياء ليالي الشهر الكريم، وتحدث منافسة شريفة بين الدواوين المختلفة لاستضافة أكبر عدد من الأهالي، وتقوم الدواوين بتقسيم أيام الشهر الكريم على العائلات المشتركة في الديوان لإحضار وجبتي الإفطار والسحور وإحضار الحلويات والعصائر بعد صلاة التراويح».

أما عن السهرات الرمضانية فيوضح أبو قريع أنها تبدأ بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم ثم يليها عرض لمشكلات المتخاصمين لحلها، إن وجدت، ويتخلل ذلك عرض قضية معينة سواء اجتماعية أو سياسية لمناقشتها وسماع الآراء المختلفة حولها، وأحيانا يقوم أحد الخطباء بإلقاء خطبة قصيرة عن شهر رمضان وآدابه، وتنتهي الليلة بقراءة ما تيسر من كتاب الله عز وجل، وقد يمضي الوقت أحيانا حتى يحين موعد السحور، ولا تمر ليلة من هذه الليالي المباركة إلا ويخرج الجميع منها باستفادة سواء في حياتهم الدينية أو العملية، وتعتبر فرصة عظيمة لكسب الحسنات في رمضان، وكذلك الإسهام في حل مشكلات الآخرين.

ويلفت أبو قريع إلى أن هذه السهرات اختيارية وكل من يحضرها يأتي عن طيب خاطر، إما لسماع ما تيسر من القرآن الكريم أو لحل مشكلة معينة أو الاستفادة من المواضيع المطروحة للمناقشة، لذلك يرى أن هذه السهرات تُعد أكبر منافس للدراما التلفزيونية في رمضان.

ولا تخلو سهرات الدواوين من عقد ندوات تثقيف وترويح وتوعية للشباب.. فمثلما يقول رجب محمد مصطفى (مدرس): «أحيانا يتم للشباب داخل هذه السهرات عقد مسابقة لحفظ القرآن الكريم، وكل هذا يأتي بثمار جيدة يستفيد منها الجميع، كما تعمل هذه السهرات على تعليم الصغار حسن الحوار مع الكبار».

ويرى نور الدين محمود جلال أن هذه السهرات لا تقتصر على الأمور الدينية فقط، بل تمتد لأكثر من ذلك فيتم من خلالها مناقشة كل ما هو جديد على الساحة السياسية والاجتماعية، وتمثل السهرات الحل الأمثل في اجتماع أبناء العائلة والعائلات الأخرى بفضل بركة هذا الشهر الكريم، فكم من خلافات زالت من خلال هذه الجلسات الرمضانية، وهذه السهرات عادة قديمة لها جذور تاريخية تعود الناس على عقدها في رمضان، فمعظم الأهالي ينتظرون شهر رمضان، وبخاصة في القرى للمشاركة في هذه السهرات التي يتم من خلالها اللقاء بينهم، خصوصا أن هناك عددا لا بأس به من أبناء القرى ممن يعملون في الخارج يجعل إجازته السنوية في شهر رمضان وتقوم هذه السهرات بعمل التحام فكرى، حيث يتم من خلالها نقل فكر وخبرات الشيوخ للشباب من خلال تجاربهم في الحياة.

ويقول أحمد رجب (موظف) إن السهرات الرمضانية فرصة عظيمة لفض المنازعات والخصومات بين الأهالي، حيث إن النفوس تكون متقبلة فعل الخير في رمضان، لكن تريد من يحركها ويشجعها على هذا الخير.. وهذا ما يحدث في هذه السهرات التي أصبحت السهرات جزءا لا يتجزأ من الفلكلور المصري الصعيدي، فهي قبل أن تكون جلسة عائلية تجمع الأهل والأحباب هي تقليد أصيل ورثه المصريون عن آبائهم وأجدادهم مثلما ورثه الأشقاء العرب، ولكن بأسلوب يختلف عن الاحتفال المصري بشهر رمضان، وقد أرجع البعض نشأة هذه السهرات إلى عهد الفاطميين، إلا أن وجودها في عدد من البلدان العربية يشكك في هذه المقولة، فهي إذن تقليد مصري له أصوله وجذوره التاريخية.