فضائية «إبداع» الثقافية على محك الاختبار

بعد قناتي «التنوير» و«الثقافية» الهزيلتين.. مصر تطلق محطة تلفزيونية جديدة

TT

ولادة قناة فضائية مصرية جديدة تعنى بالشأن الثقافي تحت اسم «إبداع»، بعد تجربة فاشلة لقنوات مماثلة سبقتها أمر يثير الجدل والآراء المتناقضة في مصر. لماذا لم ينجح العرب في إطلاق أي محطة تلفزيونية ثقافية، أرضية كانت أم فضائية، وهل من معوقات جوهرية، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن التغلب على هذه الصعاب، وهل نجح العرب في الإخباريات السياسية وفشلوا في الفضائيات الثقافية، أم الأمر الوقت لا يزال مبكرا لإطلاق الأحكام؟

* لسنوات طويلة عانت الثقافة في مصر من تجاهل إعلامي واضح، وحين قررت الدولة إنشاء فضائيات تعنى بالشأن الثقافي، خرجنا من المولد «بلا حمص»، بل تهكم البعض قائلا، يبدو أن قناة «التنوير» الثقافية كانت مفصلة على مقاس مديرها، لأنها ولدت على يديه، وأغلقت بعد إحالته إلى المعاش. واللافت أن إغلاق هذه القناة لم يسبب أي انزعاج للمثقفين، بل إن البعض استقبل الخبر بارتياح شديد، وكأن القناة لم تكون موجودة أصلا.

لكن واقعة قناة «التنوير»، على الرغم من مأساويتها، تشير إلى أن واقع المحطات التلفزيونية الثقافية في مصر لا يزال هزيلا، لأسباب من بينها ضعف ميزانيتها، واقتصار محتواها على قضايا فلسفية مجردة، لا يهتم بها الجمهور العام، إضافة إلى ضعف مستوى العاملين فيها.

وسط هذا الضعف الإعلامي الثقافي خرج وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، بتصريح أكد فيه قرب إطلاق قناة ثقافية جديدة، كمشاركة بين وزارته ووزارة الإعلام، واختار لها اسما هو «إبداع».

تلقي المثقفين لنبأ القناة الجديدة لم يسلم من الاختلاف، فمنهم من رحب بالفكرة، واعتبرها خطوة تأخرت كثيرا في طريق إعادة الاعتبار للثقافة، ومنهم من رأى الأمر مجرد رقم جديد يضاف إلى حالة الهزال، وبين هؤلاء وهؤلاء تعددت الآراء التي تبحث عن طرق جديدة لإنعاش واقع الإعلام الثقافي.

يقول الكاتب صلاح عيسى، رئيس تحرير جريدة «القاهرة» التابعة لوزارة الثقافة إن القناة الوليدة لا بد أن تلتزم ببعض الشروط كي تتخطى فشل مثيلاتها من القنوات الثقافية المصرية، ومن بين الاعتبارات التي وضعها عيسى، أن تبث المحطة أرضيا لتضمن أكبر كم من المشاهدة، ولا تدخل في منافسة مع مئات المحطات الفضائية، إضافة إلى زيادة ميزانياتها.

أضاف عيسى: «هناك وهم لدى القائمين على المحطات الثقافية، مفاده أن الثقافة هي المسرح والشعر والرواية، مع أن الأمر يتسع لأشياء كثيرة، ومن يتابع محطات (ديسكفري) و(أنيمال بلانيت) أو محطة (أرتيه) الفرنسية - الألمانية الثقافية يعلم أن مفهوم الثقافة يتسع لأشياء كثيرة ممتعة تقدم في قالب جذاب للمشاهد. فالوثائقيات مادة جاذبة، ولها جمهور عريض، وهناك أمثلة كثيرة مصرية على كيفية تقديم مادة ثقافية جماهيرية. نور الشريف مثلا كان يقدم برنامجا على فضائية (دريم) عن جماليات السينما، حقق نجاحا كبيرا، كان يحلل المشاهد ويبرز مكامن الجمال التمثيلي والتصويري والإخراجي فيها، إضافة إلى العناصر الأخرى، كالديكور والموسيقى والمونتاج، وحركة الكاميرا، وكيفية بناء المشهد، وتوظيف الممثل، ناهيك عن الاهتمام بالبعد النفسي لأعضاء فريق العمل، وخاصة الممثلين. كما قدم الموسيقار عمار الشريعي برنامجا إذاعيا وتلفزيونيا متخصصا في الموسيقى، اسمه (غواص في بحر النغم)، وفيه يحلل جماليات الألحان والأداء الغنائي للأعمال التراثية. وعلى الرغم من استغراق الشريعي في التخصص وحديثه في علوم لا يعرفها إلا الدارسون للموسيقى، لكن البرنامج حقق نجاحا كبيرا».

وطالب عيسى القائمين على محطة «إبداع» المزمع إنشاؤها بضرورة الاستعانة بمجموعة من المستشارين لديهم ثقافاتهم الخاصة في مجالات متنوعة، لضمان أكبر قدر من الاحترافية والتخصص، مهمتهم العكوف على تقديم البرامج بشكل جذاب، كما يجب الاستعانة بالنجوم للاستفادة من عنصر الشهرة في جذب الجمهور.

ومن بين الاعتبارات المهمة في رأي عيسى ضمان أكبر قدر من الاحترافية للعاملين بالمحطة، فـ«طلة» المذيع وثقافته من الأمور الجوهرية، حتى لا ينفر الجمهور من الشاشة إلى غيرها.

وبحسب عيسى، فإن جرعات الإنفاق لا بد أن تزيد، لأن القنوات الثقافية كانت تعاني دائما من ضعف الإنتاج، وتقتصر برامجها على مناقشة قضايا خلافية يدور في فلكها كتاب ومبدعون، يتناحرون حولها داخل قاعة مغلقة، بينما لا تخرج الكاميرا أبدا لتجوب الشوارع والصحاري والبحار، أو تلتقط الظواهر الثرية في أنحاء المحروسة.

الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي، يرى أن ضعف مردود المحطات الثقافية المصرية نابع من عدة أمور، أولها طبيعة النشأة، فمحطة «التنوير»، والقناة «الثقافية» على وجه الخصوص، نشأتا من إنتاج خطاب مضاد لخطاب الجماعات الإسلامية. وبعد تراجع تلك الجماعات وجدت السلطة أن مبرر وجود الخطاب البديل انتهى، فرفعت يدها عن دعم تلك القنوات وتركتها تعاني الفقر الفني والإنتاجي.

وعدّد عمار عيوب المحطات الثقافية المصرية قائلا: «تعاني من أمراض مزمنة، منها المباشرة في الطرح وتكرار الضيوف، والوقوع في أسر جدليات فلسفية ليس لها أصداء في الشارع».

واقترح عمار الأخذ بأنماط ناجحة من البرامج وتطبيقها، من بينها برامج «توك شو ثقافية» تستعرض الأخبار الثقافية، وتعرض تقارير جذابة بشكل يومي عن شتى مناحي الفعل الثقافي والإبداعي، سواء في مصر أو في محيطها العربي، أوفي العالم.

وبحسب الدكتورة ماجدة سعد الدين أستاذة النقد التشكيلي بأكاديمية الفنون، فإن المحطات الثقافية تفتقد أشياء كثيرة، وتقول: «نفتقد للثقافة البصرية. أقضي ساعات يوميا أمام المحطات العالمية، أتجول عبرها في متاحف العالم، مرة في موسكو ومرات في لندن وباريس وفيينا، وإيطاليا، وألمانيا. أشعر بالإشباع بعد مشاهدة تجليات المدارس الفنية المتنوعة، لكن هذا نفتقده في بلادنا، وليس باستطاعة كل الجمهور أن يتابع المحطات الغربية. هناك من يجهل اللغات الأجنبية. وليست الثقافة البصرية هي ما نفتقده فقط، بل تبهرني البرامج الموسيقية خاصة تلك التي تتحدث عن الموسيقى، وكيف تصوغ الشعوب موسيقاها بما يعبر عن هويتها».

وعن التصور الممكن لإنجاح المحطات الثقافية العربية قالت سعد الدين إن الأمر يقتصر على كلمة واحدة وهي «التنوع»، فتناول اهتمامات ثقافية مختلفة يلبي حاجات متباينة ويرضي أكبر قدر من الأذواق.

بحسب سعد الدين فإن تناول الكتاب التشكيلي بالنقد والتحليل ينمي الثقافة الفنية والبصرية، وينشر قيمة الجمال في المجتمع، وهو ما نفتقده في حياتنا، فيسود القبح والأمية الفنية، بشكل نلحظ مؤشراته مثلا في تنافر ألوان المباني وقبح أشكالها وتخطيطها، بل في الملابس التي نرتديها، وكل هذا ينعكس على السلوك العام في المجتمع.

وبدوره قال الناقد الدكتور سيد البحرواي، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، إن المحطات الثقافية العربية ضحية حكوماتها. ولإصلاح أحوال المحطات الثقافية يرى البحراوي أنه لا بد أن تتوافر الرغبة والإرادة الرسمية لذلك. والخطوات التالية سهلة للغاية لأن الكوادر البشرية المدربة موجودة.

وللدلالة على كيفية عمل القناة الثقافية في برامجها، وتحقيق متعة التشويق والفائدة معا يذكِّر الدكتور عمار علي حسن بفيلم وثائقي عن فرس النهر نفذته محطة «ناشيونال جيوغرافيك»، يقول عمار: «رصدت القناة ميزانية ضخمة للفيلم، وأرسلت عالما متخصصا لتصويره في الغابات. كان العالم يريد تحليل عَرَق هذا الحيوان العنيف، لم يستطع اختباره لأنه يعيش في الماء، ومع ذلك وجد الحل. حفل الفيلم بكل عناصر الجذب، صمم هذا العالم مجسما حديديا على شكل حيوان فرس النهر، وتخفّى داخل المجسم ما يقرب من 10 ساعات، ثم غرس المجسم داخل الطين، وتم إنقاذ العالم أكثر من مرة من الموت. استمتعت كمشاهد بعناصر المطاردة والتشويق، كما استفدت من معلومات لم أكن سأعرفها أبدا. ويكفي أن ابنتي سألتني وهي تشاهد فرس النهر في حديقة الحيوان بعدها بأسابيع عن سر إخراج فضلاته ونثرها في كل الاتجاهات حوله، وسر هز ذيله بعنف، فأجبت بما أفادني به الفيلم الوثائقي، بأن تلك العلامات دليل على غضبه واستعداده للهجوم، ونثر الفضلات نوع من التحدي وإثبات أن كل الحيز الذي وصلت إليه تحت سيطرته».

أما الشاعر والناقد الصحافي أسامة عفيفي، فلا يستبشر خيرا في محطة فضائية تقع تحت وصاية المؤسسة الرسمية. يقول: «أخشى أن تتحول إلى (سبوبة) لتحقيق المصالح والمنافع الشخصية الضيقة، على حساب الصالح الثقافي العام».

يضيف أسامة: «نحن لدينا أزمة ثقة وازدواجية، صنعتها المؤسسة، فهناك مثقفو النظام، وهناك المثقفون المستقلون، وفي ظل غياب الحوار العلمي الصحيح تتسع المسافة يوميا بين الطرفين، وكأن ثمة معركة سرية بينهما، على هامشها يتم تقنين التواطؤ وتبرير الكذب والخيانة، ويصبح التخبط والتربص بين الجميع هو المنطق السائد. قس على ذلك، ما حدث في أزمة سرقة لوحة (زهرة الخشخاش) للفنان العالمي فان جوخ، من متحف محمود خليل، وكمّ التخبط الذي رافق الأزمة، ووقع في شراكه مسؤولون كبار بوزارة الثقافة. لذلك أقول هل يمكن أن تكون القناة المزعومة بمثابة الضمير الثقافي الذي يفضح الأكاذيب ويعلي من شأن الثقافة والإبداع؟ أشك في هذا!