هل ماتت «الجاحظية» في الجزائر مع موت الطاهر وطار؟

جمعيته الأثيرة تنتظر قائدا له «كاريزما» صاحبها المؤسس

الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلا عند زيارته جمعية «الجاحظية»
TT

يكاد لا يذكر اسم الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار في الجزائر، إلا مقرونا باسم «الجاحظية» التي كان مقرها عنوانه الدائم، وأعطاها الكثير من وقته وجهده. وبعد رحيل وطار، هل ستموت هذه الجمعية الثقافية بموته، أو سيكتب لها عمر جديد؟ فالطاهر وطار، الذي أقعده مرض سرطان الرئة منذ سنتين واضطر إلى السفر إلى مستشفى «سان ميشال» في باريس، كان لا يتردد في الاتصال تليفونيا بمقر جمعية «الجاحظية»، في الشارع الذي يحمل اسم الكاتب الجزائري أحمد رضا حوحو الذي اغتالته قوات الاحتلال الفرنسية سنة 1956، ويشرف من بعيد على كل كبيرة وصغيرة من نشاطات تلك الجمعية، من محاضرات وندوات وجوائز في الشعر والرواية، وكان يشرف على إعداد الدعوات باسمه وبتوقيعه الشخصي، ولم ينقطع عن ذلك إلا مع نهاية الموسم الثقافي الموافق لشهر يوليو (تموز) الماضي، الذي صادف دخوله مرحلة خطيرة من المعاناة وغيبوبة بعدها فارق الحياة. وكان الطاهر وطار قبلها يشتغل في تلك الجمعية الثقافية مدة عشر ساعات يوميا لعشرين سنة كاملة، وحولها من جمعية صغيرة إلى مؤسسة ثقافية كبرى، لا ينقطع النشاط الثقافي فيها وتصدر عنها مجلات مخصصة للفكر عموما وهي مجلة «التبيين» وللسرد «مجلة القصة»، وللشعر «مجلة القصيدة»، وأشرف عليها نخبة من أبرز الكتاب الجزائريين من مختلف الأجيال الأدبية. وحرص على توزيع جائزة باسم الشاعر الجزائري الراحل مفدي زكريا وهي جائزة مغاربية، وأخرى للرواية أعطاها اسم صديقه الروائي الراحل الهاشمي سعيداني، ورواق شبه دائم للفنون التشكيلية يحمل اسم الفنان الجزائري الراحل محمد خدة، ومكتبة تضم آلاف الكتب هي أساسا تركة الشاعر الراحل يوسف سبتي، النائب السابق للطاهر وطار في رئاسة الجمعية.

وأسس الطاهر وطار جمعية «الجاحظية» برفقة مجموعة من أبرز الوجوه الثقافية في الجزائر سنة 1989 في أجواء التحولات الكبيرة بعد أحداث الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 1988، وبعد خمس سنوات من إجباره على التقاعد في سن الـ48 من حزب «جبهة التحرير الوطني» (الحزب الواحد الحاكم حينها)، واعترف بعدها في مذكراته المنشورة بأنه كان يفكر في الانتحار ولم ينقذه إلا هذا المشروع الثقافي الكبير الذي أعاد إليه الرغبة في الحياة.

ولئن ارتبطت «الجاحظية» بالطاهر وطار، كما ارتبط بها في المرحلة الأخيرة من حياته، فإن فكرة تأسيسها باعترافه هو تعود إلى صديقه الشاعر المفكر يوسف سبتي الذي اغتيل بعد ذلك بطريقة بشعة وفي ظروف غامضة في تسعينات القرن العشرين (وهو بالمناسبة بطل رواية «الشمعة والدهاليز»)، فقد التقى اقتراح الشاعر يوسف سبتي مع مبادرة الطاهر وطار، لتجتمع نخبة من أبرز الوجوه الأدبية، منهم الروائي واسيني الأعرج والروائي مرزاق بقطاش والروائي الحبيب السائح والشاعرة زينب الأعوج والجامعي عبد القادر بوزيدة والكاتب والباحث عبد الحميد بورايو، التقى الأصدقاء في بيت الطاهر وطار في شهر مايو (أيار) 1989، ليوقعوا ميلاد «جمعية الجاحظية» بحثا عن «عقلانية جديدة» في جزائر كانت مقبلة حينها على مصير غامض، ويصبح شعار الجمعية بعدها «لا إكراه في الرأي». ورغم أن الجمعية حملت هذا الشعار الجميل منذ البداية فإن الخلاف بدأ يدب في صفوف مؤسسيها وانسحب الكثير منهم، وبقي وطار وحده من المؤسسين، ليشتغل مع أجيال مختلفة، وشخصيات كثيرة تغيرت وجوهها في كل مرحلة من مراحل الجمعية.

والآن، كيف سيكون مصير جمعية «الجاحظية»؟ هل تستمر مع هيئتها الحالية، أو سيعود إليها أعضاؤها المؤسسون من أمثال واسيني الأعرج والحبيب السائح وعبد الحميد بورايو، أو ستموت كما مات الطاهر وطار؟ سؤال بقي يتردد منذ أن دخل صاحب «اللاز» مرحلة الخطر. يقول الناقد نبيل حاجي المتابع لشأن الجمعية، إن «الأهم هو أن (الجاحظية) ومصيرها، مسؤولية الجميع ابتداء من مؤسسيها ثم عائلة الفقيد ثم الأسرة الثقافية وأخيرا وزارة الثقافة التي وقفت إلى جانب (الجاحظية) وعمي الطاهر (وطار) في الكثير من المناسبات». أما الشاعرة والإعلامية جميلة طلباوي، التي نشرت لها جمعية «الجاحظية» أول كتبها فهي تقول إن «هذا الإرث الكبير أعتقد أنه ولد وهو يحمل جينات بقائه وصموده»، وتضيف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الجينات هي من دم تواضع وإخلاص الطاهر وطار، وهو ما يكفل أن تصبح (الجاحظية)، فكرة كل من تعامل معها وهو مستعد لحمايتها وضمان بقائها، بل وازدهارها وتوسعها أيضا».

ويقول الكاتب والباحث محمد بغداد، العضو القيادي الحالي في جمعية «الجاحظية» وأمينها الوطني المكلف بالمطبوعات، لـ«الشرق الأوسط» إن «قراءة ملامح مثل هذا المستقبل تخضع إلى عدة اعتبارات، منها ما يرجع إلى الواقع القائم ومنها ما هو ممتد في جذور الوعي الثقافي للمجتمع الجزائري». ويؤكد بغداد أن «الجاحظية» هي «المشروع الثقافي الوحيد الذي تمكن من تجاوز العشرين سنة من الوجود دون انقطاع، بل امتد نحو الإنتاج وقد كان الهدف الكبير الذي كابدته يتمثل في كيفية فتح الأبواب أمام الأجيال الجديدة من الكتاب والمبدعين. كما أن (الجاحظية) وإن كانت خلاصة تضحيات مجموعة قليلة من المثقفين وفي مقدمتهم الطاهر وطار، فإنها ملك وتتويج للثقافة الجزائرية وقد تمكنت من التحول إلى نموذج ناجح يعرف بالثقافة الجزائرية في الخارج، والكثير من المثقفين يعرفوننا أو تعرفوا علينا من خلال (الجاحظية). كما أن (الجاحظية) تمكنت من تجاوز عقدة المؤسسين، فالذين أسسوا (الجاحظية) لم يبق منهم واحد في هيكلة القيادة المسيرة للجمعية. وبالمناسبة هؤلاء لم يبحثوا عن السلطة أو الريع أو الامتيازات، وهم من أهم الأسماء المشكلة للمشهد الثقافي الجزائري».

ويعتقد محمد بغداد أن «الامتحان يكمن في كيفية تسليم قيادة الجمعية إلى الجيل الجديد من الشباب ممن ديدنهم الحفاظ على استكمال المسيرة ليكون فعلا الميدان الذي يتجسد فيه التداول على السلطة بين الأجيال في الجزائر بعدما فشلنا في غيره من الميادين».

من الصدف أن يتزامن رحيل الطاهر وطار مع موسم العطلة السنوية لجمعية «الجاحظية»، لكن كيف ستكون ملامح الموسم الثقافي الجديد لجمعية «الجاحظية» من دون مؤسسها لأول مرة منذ أكثر من عشرين سنة؟.. بل وكيف سيكون مصيرها؟.. الأيام وحدها من سيجيب عن مثل هذه الأسئلة.