عبد الله ثابت: الثقافة السعودية أفضل اليوم.. لكن المثقفين وضعهم أسوأ

صاحب «الإرهابي 20» يرى أن «مرحلة الصحوة» كانت أشبه بتصفية جماعية

عبد الله ثابت
TT

يمزج الشاعر والروائي السعودي عبد الله ثابت، الذي ولد في تهامة عسير جنوب السعودية، بين الحزن العميق الذي يخيم فوق هامة اللغة الشعرية لديه، كما يخيم على لغته الكتابية، والرؤية الناقدة للعالم من حوله بأسلوب لا يخلو من حس فلسفي. ويشعر كثير من المثقفين أن عبد الله ثابت باغتهم بهالته الشعرية، مما حدا بالشاعر والناقد عبد العزيز المقالح إلى القول إنه «شاعر وروائي خرج إلينا فجأة كما تخرج شمس الشتاء الدافئة في نهار غائم».

أصدر ثابت خمسة إصدارات بين الشعر والنثر بينها رواية واحدة هي «الإرهابي 20» وهي إحدى أبرز تجارب عبد الله ثابت حين اندفع متأثرا في مراهقته وبدايات الشباب، بحركات الإسلام السياسي التي كانت تأخذ وهجا في بداية الثمانينات، تلك المرحلة، رغم مرارتها وقسوتها، أثرت تجربة عبد الله ثابت، وغرست وعيا عميقا بحقيقة تلك المرحلة ودلالات أدبياتها وتأثيراتها العميقة على البناء النفسي والاجتماعي لأتباعها.

في روايته، التي يصر في حواره التالي مع «الشرق الأوسط» على أنها ليست «سيرة ذاتية» وإنما «تجربة»، يقول في مقدمتها: «كتبت هذا العمل بين عامي 1999 - 2005. هذا كتاب اجتهدت ألا أصنفه. قصدت منه أن تعرفوا زاهي الجبالي، (بطل الرواية) هذا الذي كان احتمالا أكيدا لتمام الـ19 قاتلا في سبتمبر (أيلول) أميركا، فهو الإرهابي الـ20. وكان احتمالا أوثق لتمام قائمة الـ26، فهو الإرهابي الـ27 في السعودية، واحترت كثيرا في الطريقة التي أقدم بها هذين الاحتمالين. وأخيرا رأيت أن يمضي العمل هكذا عفوا، فسحته لزاهي، ليتحدث عن نفسه، على طريقته التي لا أسميها!» (ص5).

عبد الله ثابت يولي الكتابة اهتماما خاصا، هو لا يكتب بقلمه بل بكل جوارحه، يقول عنه الناقد المعروف الدكتور معجب الزهراني: «قلة هم الذين يكتبون بكامل الجسد. عبد الله ثابت من هذا النوع النادر فيما أزعم أنه لا يكتب كيفما اتفق لأنه لا يعيش الحياة كيفما اتفق. وهو لا يتعامل مع اللغة منفصلة عن ذاته المرهفة وأناه المثقفة الخلاقة».

«الشرق الأوسط» التقت الشاعر والروائي عبد الله ثابت وأجرت هذا الحوار معه:

* من يقرأ كتاباتك، وبخاصة في مجموعتك «كتاب الوحشة»، يجد «ثيمة» الحزن تخيم على المكان، في هذه المجموعة أنت تقول: «أكتب لأنني حزين»، و«أنا حزين بالضرورة لأنني لم أولد/ لقد طحت من بطن أمي». وتقول كذلك: «أكتب لأنني يتيم ومنهك جدا...» (ص 11)، ما سر هذا الحزن، وهل وجدت أن طاقة النص (شعرا ورواية) كافية لاستيعاب هذا الحزن؟

- هل هناك من يمكنه أن يقول إن أحدا أو شيئا ما بوسعه أن يستوعب الحزن؟ الكون كاملا لا يكفي لاستيعاب هذا الحزن الوجودي الهائل الذي يجلل جوهره ونواحيه في كل اتجاه، الكون نفسه مطلي بظلمة حزينة وموحشة، تأمل الصور التي التقطتها وكالات الفضاء لهذا الجزء اليسير من الكون، سترى أي وحدة سوداء تضرب بأطنابها فيه، حتى إن الشموس بكل نيرانها والأقمار والنجوم، تبدو ضئيلة ومسكينة في مواجهة تلك العتمة اللانهائية. الذي يشوي قلبه المشي في طريق الفن والمعرفة بصدق، فإن أسئلة هذا الحزن الوجودي، وعذاب هذه الظلمة المجهولة، ستلدغ قلبه دوما حتى النهاية، ستعصر روحه حتى أمام أدق التفاصيل الصغيرة فيما يحيط به على هذه الأرض وخارجها.

إن الحزن الذي أحاول عبثا مواجهته ولو بشجاعة الكلمات ليس ذاك الحزن الساذج، الذي تأتي به الوداعات أو الخذلان أو الفقد أو ما تجلد به الأقدار أيامنا، ليس هو ما أعنيه، مع أنه ينال مني أيضا، ولا يمكنني التعالي عليه ولا تفاديه. إن ما أعنيه بالحزن هو أني مجهد ومشغول بغضب بهذا الظلام والمجهول المرير في كل شيء، أعطيك مثالا يحدث كل يوم، ألم يسبق لك ورأيت – ولو في التلفزيون - ثعبانا يبتلع عصفورا أو ضباعا تنهش عجلا صغيرا؟ وأنت أيها الإنسان ألا تفعل فعل الثعابين والضباع نفسها؟ حسنا.. أسألك؛ لماذا تكون حياة كائن مجرد وجبة عابرة في حياة كائن آخر؟! قل لي: هل هو سؤال صغير وتافه؟ هل سيأتي من يقول بأن الأساطير والمعتقدات وقوانين الطبيعة والبقاء و... إلخ ستجيبك! أعلم أن كثيرين سيجيبون، لا سيما أولئك الذين يجعلون من إجاباتهم سلطة على حياة الآخرين، لكنني أدري أيضا أن هذا السؤال اليومي لا إجابة له، وأنه ليس سوى مظهر واحد من ملايين ملايين الأحداث التي يسكن المجهول داخلها، وأنها ليست سوى أثر من آثار هذا الحزن الوجودي الغامض وغير المفهوم، على الأقل عندي، ربما يكون هذا السؤال بالفعل تافها ولا معنى له، لكنه يؤلمني ويؤرقني، وأنا لا أخجل من أرقي، لذلك فأنا حزين بالضرورة، وكلنا حزانى بالضرورة!

* المكان ملهم للشعراء عموما، لكنك تشعر أن الأرض خذلتك.. بل إنك تخاطبها: «إليك أيتها الأرض الشاسعة بكل البشر والكائنات لن أسامحك... أما أنت يا قبضة الطين التي خُلِقْتُ منها.. أنا آسف، لم أتوقع كل هذا!».. أين خاب ظنك في أرضك وبيئتك الحاضنة؟

- الأرض خالية من البشر والكائنات بريئة إلا من سؤال ماهيتها ومجيئها، لكن الأرض بالبشر والكائنات تصير مثلهم، تشبههم وتشبه ما يفعلونه، وأنا لا أوافق على ما يفعله البشر في أماكن كثيرة من هذه الجغرافيا، وأدرك أني عاجز عن تغييره، لكني لست عاجزا عن الصراخ في وجهه! لنتحدث عن الجغرافيا المحيطة بنا، فانظر إلى هذا الوطن العربي كاملا من أقصاه إلى أقصاه، وقل لي أين هو المكان الذي لا يخاف فيه أحدنا من موقفه ولا رأيه؟ أين هو المكان الذي يسع أحدنا أن يعيش به دون أن يسطو آخرون بسلطتهم على حريته واختياره، فكيف يمكنك أن تسامح أرضا هذه هي حقيقة وجودك فيها، وكيف يمكنك أن تسامح بشرا هذه هي حقيقة وجودك بينهم، وأمام هذا الواقع فإنني لا أملك سوى الصراخ، والاعتذار للطينة التي خلقت منها!

* هناك من يربط الاتجاه التلقائي الممزوج بالسخرية في قصائدك إلى تأثرك بالشاعر محمد الماغوط. إلى أي مدى تشعر أن تجربة الماغوط مثلت محفزا لك؟

- لم أقرأ الماغوط كاملا، لكنني قرأت له ما أظن أنه يؤهلني لأقول عنه شيئا واحدا، وهو أن هذا النوع من الشعراء بالذات لا يمكن لأحد أن يمشي الطريق الذي مشاه، إنه ليس شيخ طريقة، وليس إماما، ولا داعية، ولا مبشرا، هو شخص وحيد، مشى طريقا لا يمكن عبوره ولا الاهتداء إليه، لأنها ببساطة طريق لا يتسع لأحد معه، وعبر يقيني بهذا التوصيف أقول إنني لم أتأثر مباشرة بتجربته الشعرية. ربما كل ما في الأمر أني أتقاطع مع الماغوط في تركيب شخصيته، لا في نصه. والذين يرون تقاطعا في نصي ونص الماغوط يعطونني شرفا كبيرا، لكنني أدرك في قرارة نفسي أن هذا ليس صحيحا ولا حقيقيا، ولا أقبله، أنا والماغوط ببساطة قرويان ريفيان حادان، غير راضيين عن شيء ولا عن أحد، وهو مشى طريقه الذي لا يتسع لغيره، وأنا أمشي طريقي!

* «الإرهابي 20»

* في روايتك «الإرهابي 20»، من الواضح أنها تمثل جانبا من «السيرة الذاتية»، ألا يوقعك ذلك في الخلط بين واقع التجربة بمرارتها وعالم الرواية القائم على الخيال وكثافة الصورة؟

- «الإرهابي 20» لم تكن أبدا سيرة ذاتية، وليس هكذا سأكتب سيرتي الذاتية حين يأتي يوم وأكتبها. يمكنك القول بأنها تجربة، وفوق هذا لم تكن تجربة شخص واحد، سواء كنت أنا هذا الشخص أم آخر، إنها تجربة جيل بأكمله، أو أجيال التحقت بالتعليم بعد عام 1979 وأحداثه، الذي كان تحولا خطيرا ومؤلما في سير نمو المجتمع السعودي، بما لحق بذلك من استحواذ الخطاب الديني القاسي والمتطرف على كل شيء في حياة الناس، خصوصا في سائر مؤسسات التعليم. نتج عن ذلك صعود حركات الإسلام السياسي واستغلالها لذلك الظرف، وغلبت ثقافة الموت والقبور والنار والإمعان في تضييق دائرة المباحات، وتوسيع دائرة المحرمات، حتى طالت الزهور والهدايا والملبس والمأكل والسفر، ودخل المجتمع في حالة من هستيريا الخوف من كل شيء، وهكذا تشكلت ظاهرة الاستفتاء في مسائل مثيرة للطرافة في خارجها، لكنها مؤلمة جدا في عمقها، وتدل على أي حال وصل إليه الإنسان هنا، تحت شراسة الانغلاق والغلو، مثل الاستفتاء في حكم الاغتسال بـ«الشامبو»، وحكم استخدام الفرشاة والمعجون، وحكم اغتسال الرجل عاريا، وتحريم التصوير بأنواعه كافة واعتباره من الكبائر، وتحريم إهداء الأطفال هدايا في أعياد ميلادهم، وتحريم احترام الكفار ووجوب معاداتهم.. وغير ذلك الكثير الكثير الكثير.. ناهيك عن فتاوى التكفير وإهدار الدماء... إلخ، أما ما يتعلق بمسألة الرواية والسيرة والخلط بينهما، فأنا لا أولي هذه الأمور بالا كبيرا، إنني أكتب فحسب، وتسمية ما أكتب لم يكن شيئا حاضرا في ذهني ولا حسي!

* إلى أي مدى أفادتك تجربتك السابقة، كناشط جهادي، في بناء عوالم الرواية؟

- مع أنني لا أعرف بوضوح كاف معنى توصيفك بـ«ناشط جهادي»، لكن يقينا إن كل التجارب التي يمر بها صاحب الفن، تنعكس بشكل واع وغير واع في آن، في بنائه حياته، وامتدادا لذلك يأتي بناؤه لفنه، الإنسان ابن ذاكرته، والذاكرة بنت الليل والنهار، بكل التفاصيل التي ننتبه إليها، والتي لا ننتبه إليها، هذا هو النسب الوحيد الذي أؤمن به لأي فن!

* خارج سياق الرواية، كيف تجد عالم تلك الجماعات المغلق.. حين تقف اليوم في مكان الناقد؟

- كانوا خطرين فوق ما توقعه الجميع، ولا يزالون خطرين فوق ما يتوقعه الجميع.. ويا ليت قومي يعلمون!

* من يقرأ قصائدك ويشاهد اتجاهك نحو الفن وتلمس الجمال، لا يشعر أنك كنت مرشحا لأن تصبح «مشروع إرهابي».. كيف حافظت على الروح الشاعرية الخلاقة والمبدعة؟

- تستطيع أن تغسل عقل أي مراهق، وخصوصا إذا كنت تستخدم مقدسا في ذلك الغسيل، لكنك لن تستطيع محو القرية وشيمتها ومروءتها وقيمها في وجدانه، ولن تستطيع أن تخنق صوت أمه وأغنياتها التي همست بها في أذنيه، لا يمكنك أن تسحق الشجر، ولا الوديان، ولا الحقل، ولا المطر، ولا الحب، ولا الرحمة، ولا وجه أبيه وأمه وإخوته وجيرانه، ولا تستطيع أن تقتل الحياة البريئة الأولى التي تقبع في أعماق أعماقه، هذه المنطقة في داخل الإنسان لا يمكن لأحد أن يصل إليها. إن ما تفعله أي آيديولوجيا، وما يفعله أي واحد من الذين يغسلون عقول المراهقين وحتى الكبار، أنهم فقط يجعلونهم عميانا عن رؤية أنفسهم وحقيقتها، يفعلون ذلك باسم الله، وصدقني أنه لمجرد أن يجد هذا الإنسان ما أو من يوقظ هذه التفاصيل في أعماقه، لمجرد أن يفتح عينيه ويمسح عنهما بعض هذا العمى، ويريه خيطا من نور حياته الأولى، سيبدأ في الصحو من هذا الكابوس الذي كان بداخله، وحين يستيقظ تماما سيقف مشدوها مثل الذي استيقظ من سحر أو إغماءة طويلة، وعلى الفور سيسأل بدهشة: أين أنا؟ أين كنت؟ وماذا حدث لي؟ ومن فعل بي هذا؟

* هل تمارس حريتك اليوم بأقصى ما يمكن ردا على مراحل الحرمان التي عشتها؟

- لقد بلغت من العمر ما يقرب من الأربعين، ومرت بي تجارب كثيرة بالداخل والخارج، واختلطت غالبا بكل الشرائح والطبقات الاجتماعية، أيضا في الداخل والخارج، من النافذين بأعلى مستوياتهم، وحتى البسطاء والمعدمين والأميين، وما زلت أتعلم بحماسة طفل، لكنني أرجو أنه صار لدي من الوعي والنضج ما يجعلني أفهم الحرية بشكل عام، وأعرف حدود الحرية التي تصلح لحياتي بشكل خاص، وليس بالضرورة أن يصلح فهمي لغيري. أظنني - على الأقل - صرت قادرا على تجاوز أي تجربة مضت، مهما كانت حلوة أو مريرة، ستبقى كل تجاربي ويجب أن تبقى في ذاكرتي، ما دمت حيا، لكنها لا تحكمني.. إنني وحدي سيد حياتي الآن!

* أين تبدأ حرية الكاتب وأين تقف؟

- للحرية عندي حد واحد في كل شيء؛ افعل ما تشاء فيما تشاء، واكتب ما تشاء فيما تشاء، وقل ما تشاء فيما تشاء، لكن لا تؤذِ أحدا بعينه!

* كيف تقيم الأجواء العاصفة التي نجمت عن روايتك «الإرهابي 20»؟

- حظيت بما لم أتوقعه، وما لم أراهن عليه، بل على العكس، كنت أعد العدة قبل صدورها لأشياء، أتبسم حين أتذكرها الآن، صحيح أني واجهت مصاعب كثيرة بسببها، لكنها أيضا أهدتني أشخاصا وتجارب في غاية الأهمية، ولو كتبت عما نجم عنها من الأحداث وردود الفعل، لما كان ما سأكتبه أقل في شيء مما كتبته في «الإرهابي20»، لكنني وبكل ما أستطيع، جعلت هذه الرواية ورائي، ولن أعود إليها، ولا إلى عوالمها، ولا حتى إلى ما جاءت به من الآثار، ما كان جميلا ومؤثرا وشفافا منها، وما كان غير ذلك، ولتكن هذه فرصة لألقي وفاء التحية لكل الذين منحوني حبهم واهتمامهم بصدق!

* أنت شاهد على مرحلة «الصحوة» واصطفافاتها، إلى أي درجة كانت أدبيات تلك المرحلة معوقا للتفكير الحر والخلاق؟

- معوقا!! هذه كلمة وديعة ولطيفة في وصف ما فعلته تلك الخطابات في التفكير الحر والخلاق، لدي تعبير أرى أنه أدق، أرى أنها قامت بالسطو عليه، وحاولت خنقه بكل ما أوتيت، إن ما فعلته تلك المرحلة كان أشبه بارتكاب تصفية جماعية، وحتى لا يقول أحد إن كلامي مجازفة أو مبالغة، أقول اسألوا أجدادكم وآباءكم وأمهاتكم، أي حياة سوية كان يعيشها مجتمعنا، قبل واحد وثلاثين عاما، وأي حياة نحن فيها الآن، أما الذين يعيشون في الأربعين والخمسين والستين وما فوق ذلك من أعمارهم، فلا حاجة لسؤالهم لأنهم يعرفون ما أعنيه جيدا، يعرفون كيف ولماذا هاجت الخطب والخلوات والمخيمات التي طارت بأجساد أبنائهم إلى أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق ونهر البارد، ويعرفون لماذا حدث الذي حدث في الخبر، والمحيا، وفي جدة وجازان وأبها والباحة والجوف... إلخ، ويعرفون تماما لماذا خرجت وما زالت تخرج قوائم بأسماء مطلوبين، يهددون حياتنا، ويعتقدون بكفرنا وكفر بلدنا!

* هل تحرر المجتمع من ذيول تلك المرحلة؟ وهل المثقفون اليوم في وضع أفضل من السابق؟

- لم يتحرر، لكنه في طريقه إلى ذلك، وقد يستغرق هذا العتق وقتا طويلا، وأنا مع التغيير الذي ينمو ببطء، حتى لو استغرق الأمر 10 أو 20 سنة، دون استفزاز مجتمع أمعن الانغلاق والتشدد الديني في محاصرته، حتى تمكن من عزله عن العالم، وبالتالي الانفراد بصياغته، كما يشاء، كل هذه العقود. وأرى أن هذا التغير البطيء عين العقل، وخصوصا في هذه المرحلة، ونحن محاطون خارجيا ببعض البلدان، التي تحاول اقتناص أي اهتزاز أو بلبلة لدينا في الداخل، ولكنني في الوقت نفسه، أتمنى أن لا نبالغ في الخوف والحذر والبطء، وأتمنى أن يرافق كل خطوة يخطوها المجتمع إلى الأمام قرار ونظام يحميه ممن يريدون شده للوراء! على الصعيد الثقافي أرى أن الثقافة اليوم وضعها أفضل، لكن المثقفين وضعهم أسوأ!

* لماذا أنت مقل في حضورك في المشهد الثقافي السعودي؟

- ليست العزلة سيئة دائما.. أنا صدقا أحب الجميع، وأحمل احتراما تاما للجميع، وليس لدي أي مواقف سلبية حيال أحد، ولا معارك ولا نزاعات، بداخل الوسط الثقافي السعودي، لسببين، أولهما أني لست عضوا في أي ناد أدبي، ولا أي جمعية ثقافية، ولا أحضر أي صالونات، فليس هناك ما أنازع عليه أحدا، والسبب الثاني أنني شخص حاد قليلا، ولا أحب «وجع الرأس»، لذا فوجودي في بيتي، في مكتبتي الصغيرة، يحقق لي صفاء ذهنيا ونفسيا لا أجده خارجهما، ومع ذلك فحين تصلني أي دعوة من أي جهة، داخل السعودية أو خارجها، فإنني أبادر بتلبيتها، بمحبة واهتمام كبيرين، في حال كان توقيتها وموضوعها مناسبين!

* ما هي اشتغالاتك اليوم؟

- أنهيت عملا فيه حكاية ومنامات وشعر وتأملات في طباع المجهول وأطواره، وأشتغل على مراجعته الأخيرة، قبل أن أدفع به إلى الناشر، على أمل أن يصدر في الأشهر الأولى من السنة الميلادية الجديدة.

* سيرة أدبية

* مواليد، أبها، منطقة عسير، السعودية (1973).

* حائز على جائزة أبها الوطنية لمكافحة الإرهاب 1424/1425 (المركز الأول).

* جائزة المفتاحة للشعر الفصيح 1423/1424 (المركز الأول).

* جائزة إمارة منطقة عسير للتميز الوظيفي 1423/1424.

* الفوز بمسابقة بيروت 39 ضمن قائمة التسعة وثلاثين أديبا عربيا 2010.

* كاتب رأي في صحيفة «الوطن» السعودية، وكاتب زاوية.

* مشاركات أدبية في ملتقيات دولية في اليمن وفرنسا وبيروت.

* تأسيس مجلة «اليوم الوطني» (1 الميزان) عام 2008 وإصدار عددها الأول لعام 2009.

* المؤلفات المنشورة

«الهتك»، مجموعة شعرية، ط1: صادرة عن وزارة الثقافة اليمنية، صنعاء 2004، ط2: صادرة عن دار طوى/الجمل، بيروت 2009.

«النوبات»، مجموعة نصوص، صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005.

«الإرهابي 20»، رواية، صادرة عن دار المدى، دمشق، ط1/ط2: 2006، ط3: 2007.

«حرام c.v»، مجموعة فنية، صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2007.

«كتاب الوحشة»، مجموعة نصوص، صادر عن دار الآداب، بيروت 2008.

* المؤلفات المترجمة:

- «Le Terroriste 20» (الإرهابي 20) التي صدرت عن دار آكتسود، باريس 2010، ترجمة: فرانسيس نيرود.

- «Ketab Alwahsha» (كتاب الوحشة) قيد الصدور عن الدار نفسها: آكتسود، باريس، ترجمة: سهام بوهلال.

* مختارات من «كتاب الوحشة.. كائن يقف في الظلام ويقول شيئا»

* مَصْل (أ / 1)

أكتب هذه الوحشة..

لأنني حزين بالضرورة، لأنني ولدت في الشتاء، في وقت متأخر من الليل. أبي كان قلقا، وإخوتي كانوا خائفين، والفانوس كان مشدوها، ووالدتي التي تتألم، كانت قد توحّمت بعويل رياح، وعندما كانت تغفو أمي تلك الليلة قليلا، كانت ترى أن جسدها يتحول إلى شباك خشبي، وأن الليل صار هتافا مطلا على شفير الوادي، وأنه يطيح من أحشائها أغنية..

أجل.. وأمي على شكل شباك كانت ترى أنها قُمع، وأنها تسيل من نفسها أغنيةٌ، ويطيح من بطنها حزام رجل شديد الغرابة، ويتطاير من بين ألواحها ورق ملون وكثير!

أنا حزين بالضرورة لأنني لم أولد،

لقد طحت من بطن أمي!

* مصل (ش / 300)

و..

حياتي حرب، وعلى خوذتي رسم لمحارب فظ، ورئتاي مثل درعي لا تعرفان غير هواء المعركة، وحين أغادرها أختنق،

وجسمي.. جسمي خرائط لغارات وغزو، ورسمات لخنادق وحصون..

أعدو بين جنودي الظمآى؛

عن يميني جحفل من ذقون فلاحين، يغمضون أعينهم، وقبل أن يرفعوا خناجرهم في السماء، يضعون ألسنتهم على شفراتها، ويقولون «يا الله، أنت أكبر من جبالنا.. فنصرك يا خالق السمن والعجين»

وعن يساري أحصنة تمتطي صهواتها الجان،

وأرواح قناصة من الجبال، لا ينامون ولا يطمرون نيرانهم!

الله.. يا الله،

إن من أمامي الغيب والحياة، ومن خلفي شهداء، قاتلوا بأسى وشجاعة.. وشحذوا رماحهم بالشوق، بقدر ما شحذوا قلوبهم بوجوه صغارهم، وأقسموا أن ينهشوا كل شيء، وأن يعودوا!

* مصل (ل / 30)

و..

أكتب كما لو أن في يدي مجرفة ومعولا، عاصبا رأسي بلفافة سوداء، وأحفر سبيلي نحو طينتي الأولى..

أكتب لأنني أريد أن أرجع إلى حيث ولدت!

آه..

بيتنا في الجبل.. وحده يؤلمني،

وأكتب كي أعود إليه!

* مصل (ذ / 700)

..

إنني أكتب لأنني ابن شارد، وأخ منزو، وأب ضعيف، وصديق مختف وهجور..

أكتب لأنني أمجد صياح الحقول.. لأنني من الوريد إلى الوريد حلم ودوي!

فلا يجلسن شيء بطريقي..

لأنني نصل!