خروج على مألوف السردية التاريخية وتشريح خطابها السياسي.. في كتابين عربيين

«العرب والمحرقة النازية» و«الفلسطينيون ودولة المحرقة» للأشقر ومحاميد

TT

قبل مطالعتي كتاب «العرب والمحرقة.. حرب سرديات عربية - إسرائيلية»، وهو دراسة أكاديمية بالغة الأهمية، للمؤرخ والمفكر جلبير الأشقر (صدرت ترجمته العربية عن مكتبة «الساقي» و«المركز القومي للترجمة» في القاهرة)، كنت قد انتهيت من قراءة كتاب آخر هو «الفلسطينيون ودولة المحرقة»، أهداني إياه المحامي د. خالد كساب محاميد، المقيم في أم الفحم (أراضي 1948)، وهو بحث أكاديمي نشر عام 2006 يستوجب التوقف عنده، إذ يلتقي المؤلفان، في الواقع، عند موضوع واحد، وإن اختارا زاويتين للنظر ومنهجين مختلفين في المعالجة، وفي التوصل إلى نتائج: يستعرض الأشقر، ويحلل المواقف العربية والفلسطينية من النازية والمحرقة تاريخيا، بينما يقيم محاميد أطروحته، على تأثير المحرقة النازية لليهود في شخصية عدوه، ودورها في صنع قراراته ومواقفه، داعيا إلى درس آلامه بصورة أعمق لإبطال استخدام المحرقة في تشريع السياسات الإسرائيلية.

تقوم أطروحة الأشقر على الأسئلة التالية: ما الذي يدفع قطاعات من العرب إلى إنكار وجود المذبحة، ويدفع قطاعات أخرى إلى التقليل من حجمها وتأثيرها؟ ما دور المحرقة في قيام دولة إسرائيل، وشرعنة وجودها وممارساتها؟ ولماذا تصر إسرائيل على استمرار بعث اضطهاد اليهود الأوروبيين؟

يتقصى الأشقر مواقف المثقفين العرب خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، والأضرار المترتبة على إنكار المحرقة على القضية الفلسطينية والرأي العام الدولي، انطلاقا من مكانتها في الذهن والتصور الأوروبيين. ويتابع بصبر، تفاصيل كل من السرديتين العربية والإسرائيلية للمحرقة، ولنتاجها اللاحق، النكبة الفلسطينية، وتأثير كل من السرديتين على النزاع القائم والمتواصل في الشرق الأوسط. ويقدم الأشقر تحليلا متميزا لمواقف القوى العربية السياسية والحزبية المختلفة من النازية، منذ الإشارات الأولى إلى وقوع مذابح جماعية لليهود، مرورا بقيام إسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية، وإلى يومنا هذا.

على امتداد 550 صفحة من القطع الكبير، تحتل المراجع والوثائق والهوامش فيها الربع تقريبا، يقدم الأشقر قراءة معمقة لمواقف مختلف الأطراف العربية من اليهود، قبل الحرب العالمية الأولى، ومن اليهود والصهيونية بعدها أولا، ومن المحرقة بعد الحرب العالمية الثانية ثانيا. ويقسم هذه القوى إلى 4 تيارات رئيسية هي: الليبراليون العرب، والماركسيون، والقوميون، والإسلاميون. وتبعا للأشقر، تراوحت مواقف هذه التيارات، بين الإدانة الواضحة والمعلنة للنازية، والمعاداة لليهود والعداء للسامية. الليبراليون والماركسيون، ميزوا منذ البداية، بين اليهود كأصحاب ديانة، واليهود الذين يدينون للصهيونية كحركة استعمارية. بينما اتخذت الحركة الإسلامية السلفية موقفا معاديا لليهود بشكل عام. أما القوميون فقد مثلوا شريحة واسعة تبعا لموقفها من المسألة المطروحة، فالبعض اقترب، أو ابتعد، مسافة معينة من التيار الليبرالي والماركسي، والبعض الآخر، ذو التكوين القومي الفاشي، لم يخف عداءه للسامية، ولم تخل برامجه منه. يدحض هذا العرض التحليلي الواسع المنظور الغربي الذي قدم صورة نمطية للعرب روجت لتماثل مواقفهم السياسية وتقارب اعتقاداتهم وأشاعت مقولة «العرب معادون للسامية». فالعرب، بحسب الدراسة، «غير موجودين كذات سياسية أو آيديولوجية متجانسة»، والعداء العرقي لليهود بينهم لم يكن في أساس مواقفهم، كما هو العداء للسامية في أوروبا ذو المنشأ الديني الكنسي والعرقي. أما كراهية العرب فلم تتوجه نحو اليهود، بل نحو إسرائيل كمشروع استعماري استيطاني، فالموقف في أساسه سياسي إذن وليس عرقيا.

لكن الأشقر يتوقف طويلا وعميقا عند موقف المفتي، الحاج أمين الحسيني، رئيس الهيئة العربية العليا، نظرا لدوره التاريخي في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، وللاستغلال المبالغ فيه من جانب إسرائيل والحركة الصهيونية لعلاقته الملتبسة بالنازية، ومحاولات سحب ذلك على العرب ومجمل الحركة الوطنية الفلسطينية وتعميم أخطائه.

يدين الأشقر المفتي صراحة، لتعاونه «الموثق والمعروف» مع النازية والفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، والدعاية لهما في العالمين العربي والإسلامي. لكنه يبين بكثير من الدقة في المقابل محدودية تلك الدعاية وتأثيرها على الفلسطينيين والعرب. فالمفتي لم يجند فلسطينيين أو عربا يخوضون الحرب إلى جانب ألمانيا. ومراهنته على انتصارها في الحرب لم تلق استجابة ذات شأن في الأوساط الفلسطينية المعنية أكثر من سواها بالمسألة. وفي نهاية الأمر لم يرتكب المفتي ولا الفلسطينيون المحرقة أو يسهموا فيها. ويورد الأشقر أرقاما مقارنة بين ما تم تجنيده من فلسطينيين وعرب ومسلمين إلى جانب النازية والفاشية، وهو محدود اقتصر على كتيبتين من مسلمي البوسنة، وبين عشرات آلاف العرب الذين حاربوا فعليا في صفوف البريطانيين والفرنسيين ضد ألمانيا وإيطاليا.

وينطلق محاميد من حقائق المحرقة والأهوال التي واجهها ستة ملايين من اليهود - «رفضوا»، من الناحية العملية، الهجرة إلى فلسطين - خلال الحرب العالمية الثانية، لينتهي إلى سؤال تردد كثيرا في ثنايا دراسة الأشقر أيضا: «إلى متى سيُلزَم الفلسطينيون بدفع وطنهم ثمنا لـ(الهولوكست) وآثام الأوروبيين وكيف سيستردونه؟».

يؤسس محاميد لخطاب سياسي فلسطيني جدي جدة أسئلة الأشقر وبحثه في السرديتين الفلسطينية والإسرائيلية. إذ يذهب إلى مطالبة الفلسطينيين كافة بالاعتراف بالمحرقة «من أجل تحقيق ما عجز عنه العنف». ويدعو الفلسطيني إلى «التضحية والخوض في دراسة آلام خصمه الإسرائيلي؟». فالفلسطيني، في رأيه، لم يأخذ موضوع محرقة اليهود بالجدية اللازمة، لكشف دلالاتها وأبعادها على التهجير والنكبة. دعوة تتحول إلى خلاصة ينبغي على الفلسطيني تبنيها كوسيلة رئيسية لفهم عدوه، ومعرفة أفضل الطرق للتعامل معه، بما يجنبه سوء الفهم الدولي، ويخلصه من الاستخدام الإسرائيلي الرديء وغير الإنساني للمحرقة في تبرير السياسات العدوانية.

يتفق الباحثان على حقيقة أن المحرقة هي نتاج أوروبي، ومسؤولية أوروبية أيضا، لا ينبغي تحميل الفلسطينيين والعرب نتائجها. لكن محاميد، الذي يغادر الأكاديمي التاريخي لصالح السياسي، يمضي بجرأة، غير مسبوقة، أبعد من حدود الاعتراف بالمحرقة نفسها، والوعي بما خلفته من كوارث دفع ثمنها الفلسطينيون وحدهم، حين يدعو إلى مشاركة اليهود مأساتهم وتذكّرها كوسيلة لتحريرهم من المخاوف الشخصية والأمنية التي تتغذى على أهوال المحرقة، وتشكل مصدرا رئيسيا «لقوة الألم الذي يؤثر على وعيهم» ويصوغ مواقفهم وردود فعلهم. بمعنى آخر، «تحييد» المحرقة بإخراج ثقلها ووزنها من حلبة الصراع، باعتبارها مأساة إنسانية يقف الفلسطينيون مثل كل مستنكريها إلى جانب ضحاياها بلا تردد، تمهيدا لاعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عن النكبة.

يرى المحاميد في ما يدعو إليه، الوسيلة الأكثر نجاعة لوقف الضحية عن «استنساخ» جلادها بخلق ضحية أخرى لا ذنب لها، ومنفذا إلى إجبار الإسرائيليين على الاعتراف بالنكبة وتحمل مسؤوليتهم عنها، لا تحميل مسؤولية «نكبتهم» هم إلى الفلسطينيين الذين لا علاقة لهم بها. فـ«العرب والفلسطينيون لم يقترفوا المحرقة، بينما إسرائيل هي المسؤولة عن النكبة، وقد أثبت ذلك مؤرخون إسرائيليون» بكلمات الأشقر.

حقا، لقد خطا الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، خطوة مهمة في هذا الاتجاه، في يناير (كانون الثاني) 1998، عندما قرر زيارة متحف المحرقة في واشنطن لمحو الضرر الذي تسببت فيه «مواقف الفيلسوف الفرنسي» روجيه غارودي وتصريحاته المعادية للسامية. وقد تم إفشال الزيارة المخطط لها، برفض مديري المتحف استقباله كشخصية مهمة. سعى عرفات إلى التعويض عن ذلك، بزيارة منزل آن فرانك في أمستردام (الهولندية) بعد ثلاثة أشهر، كما أورد الأشقر، الذي أشار إلى خطوات أخرى أقدم عليها الفلسطينيون في الاتجاه عينه. فقد افتتحوا في قرية نعلين، في الضفة الغربية، في 27 يناير (كانون الثاني) الماضي، معرضا حول المحرقة. ودعوا إلى مزيد من التعرف على معاناة اليهود (محاميد كان من المبادرين إلى هذه الخطوة). وكان أهالي قرية بعلين، قد نظموا في التاسع من الشهر نفسه مظاهرة احتجاجية، ارتدوا خلالها بيجامات مخططة تماثل تلك التي لبسها السجناء اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، بالإضافة إلى وضعهم شارات صفراء تمثل خريطة غزة، في إشارة رمزية إلى نجمة داود الصفراء التي استخدمت لتمييز يهود أوروبا في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

في النهاية ينتصر الأشقر الأكاديمي للسردية العربية، وينتصر المحاميد الباحث والسياسي للنضال السلمي، ويحذر من العنف الذي يوقظ في صدور اليهود الأهوال التي واجهها ستة ملايين من ضحايا المحرقة، تستغل إسرائيل مأساتهم لتقيم ردود فعلها وتؤسس مواقفها تجاه العرب والفلسطينيين.