حروب جنوب إيطاليا الدائمة

العدد الأكبر من الجنود الإيطاليين في أفغانستان والعراق يتحدرون من جنوب إيطاليا

TT

»الضد من الموت»، هو عنوان الكتاب الجديد للإيطالي روبيرتو سافيانو، الذي صدرت ترجمته الألمانية قبل أيام قليلة، عنوان الكتاب الذي يحوي على قصتين طويلتين، كلاهما في 71 صفحة، هو أيضا جملة أخذها سافيانو من إحدى أغاني الحب الإيطالية القديمة التي اشتهرت بها مدينة نابولي، إحدى تلك الأغاني الميلانكولية التي لا تلامس نياط القلب وحسب، بل المعبرة أيضا عن شخصية الناس في المدينة: «إذا كان الحب هو الضد من الموت (مثلما تعرفين أنت)، إذا كان الغد هو الأمل فقط (مثلما تعرفين أنت)، فلا تتركيني أنتظر حتى الغد، خذيني هذه الليلة بين ذراعيك، كارميلا».

الأغنية تتحدث عن الموت والحب، وهما الثيمتان ذاتهما اللتان تتحدث عنهما القصتان في كتاب روبيرتو سافيانو الجديد. لكن قبل كل شيء، تتحدث القصتان عن الأمل الخائب بانتظار الغد، الأمل العبثي، الأمل المخادع للنفس، وهو ما لا تعرفه الأغنية لوحدها. الغد: لا يقدم أي فسحة من الأمل، أنه وهم وحسب!

روبيرتو سافيانو الذي أصبح مشهورا وأحد كتاب البيست سيلير العالميين في عام 2006 فجأة عن طريق في كتابه السابق «كاموريا.. رحلة في مملكة الكومورا»، الذي حول في العام الماضي إلى فيلم أثار إعجاب النقاد وحصد العديد من الجوائز العالمية، لم يكشف الكاتب والصحافي الإيطالي الشاب روبيرتو سافيانو عن الوجه الحقيقي لـ«كومورا»، مافيا مدينة نابولي المشهورة بإجرامها ووحشيتها فقط، إنما بيّن وبالدلائل الملموسة كيف أن أبطال النظام الإجرام كيفوا أنفسهم منذ سنوات طويلة مع نظام العولمة الجديد، تربطهم اليوم مع بعض شبكة عريضة لنظام اقتصاد عالمي رأسمالي، وكيف أن نشاطهم في سوق المضاربات بالعقارات والأراضي لم يعد محصورا في جنوب إيطاليا، ولا إيطاليا وحدها، بل تعدى الحدود، لدرجة أنه وصل إلى مناطق بعيدة، مثل إقليم «ميكلينغ فوربوميرن» في شمال ألمانيا، بل حتى في شمال اسكوتلندا.

في الحقيقة ليس من السهولة بالنسبة لكاتب سبق له وأن كتب كتابا أصبح على قائمة البيست سيلير، أن يصدر له كتاب جديد. والصعوبة هذه تكون مضاعفة بالنسبة لمؤلف مثل روبيرتو سافيانو، قضى الجزء الأكبر من حياته صحافيا يدور من مكان إلى آخر يعيش بشكل متنكر، لأنه فضح عالم المافيا. كتابه الجديد، الذي كتبه على شكل قصص، «الضد من الموت»، يعكس أيضا مع تغير وضعه الحياتي تغير آفاقه الروائية للأحداث. الراوي لا يقودنا هذه المرة عبر الضواحي الخلفية لنابولي، عبر أزقة المدن الصغيرة المليئة برائحة الأورين، عبر أسواق بيع المخدرات في الأحياء المبنية حديثا، وفي الحقول المثيرة للرثاء، لأنها تحولت إلى مكان ترمي فيه المافيا القمامة بصورة غير شرعية. كلا، هذه المرة وفي كتابه هذا، يقودنا روبيرتو سافيانو إلى أماكن أخرى، أكثر حميمية، لكن أماكن معزولة تعبر عن الوحدة، كما في القصة الأولى، إذ سيدخلنا إلى غرفة صغيرة في بيت صغير، حيث جلست ماريا، فتاة إيطالية شابة، ربما بلغت سن الثامنة عشرة للتو، ما تزال تحتفظ بدمية باربي مرمية في زاوية الغرفة. لكن ماريا هذه تلبس السواد، أنها أرملة، «أرملة طفلة»، لأن خطيبها (وكلمة خطيب ما زال لها وزن ثقيل في جنوب إيطاليا على وجه الخصوص)، سقط صريعا في حرب أفغانستان. في حرب، لا تُسمى في الإعلام الرسمي «حربا»، إنما يطلق عليها السياسيون «مهمة»، كلمة تحوي في طياتها على «الأمل». الأمل ليس في مفهوم السياسيين وواضعي الإستراتجيات الحربية، الذين يطلقون على حربهم العسكرية عنوانا شاعريا، «حملة الحرية الدائمة»، بل الأمل بالنسبة لأولئك الذي كانوا سيكتفون بجزء بسيط من تلك «الحرية الدائمة» لكي يستطيعوا العيش بصورة أفضل. والذين يسجلون أنفسهم لهذا السبب (بسبب الأمل) متطوعين في الحملات العسكرية التي تدور خارج بلادهم، لأنهم يأملون في الحصول عن طريق ذلك على مال كثير، مال تعدهم به عادة قوة أخرى: مافيا «كومورا» فقط!

القصة تدور أحداثها في إحدى الضواحي الشمالية لمدينة نابولي، «المكان الذي أعيش فيه»، كما يقول الراوي. من المحتمل أن يكون المكان ذلك أيضا هو إحدى تلك البلدات الصغيرة، «جيليانو»، «كاسال دي برينسيبه» أو «كاتسيل بولتورنو»، أحد تلك الأماكن التي دارت فيها أحداث كتاب روبيرتو سافيانو السابق. ليس من المصادفة ألا يسمي الكاتب هنا الأماكن بأسمائها. ففي كتابه الجديد لا يتعلق الأمر بكشف وثائقي للأحداث إنما بمحاولة لاقتراب روائي من واقع اجتماعي يتطلب هذا الشكل القصصي هذا القريب من التنوير. فإذا كان روبيرتو سافيانو قد ركز في كتابه السابق على وصف نظام «كومورا»، فإنه في كتابه الجديد هذا أراد الاقتراب من الناس الذين يعيشون في داخل هذا النظام، أراد سماع قصصهم، لكي يرويها لنا. وعن طريق الشكل هذا يضع الكاتب الإيطالي الشاب نفسه (يدري أو دون أن يدري) ضمن تقاليد التقاليد الكبيرة للأدب الإيطالي (وبصورة خاصة الأدب السياسي الجديد ما بعد الحرب) ولما عُرف باتجاه الواقعية الجديدة، الذي عرفناه أكثر في بلداننا العربية في السينما، بسبب غياب الترجمات عن الإيطالية لكل تلك الروايات التي اشتهرت بهذا الاتجاه، وهي كثيرة.

العدد الأكبر من الجنود الإيطاليين المتطوعين في العمليات العسكرية للجيش الإيطالي في أفغانستان والعراق (حتى فترة قريبة)، ينحدرون من جنوب إيطاليا. أيضا أغلبية الجنود الذين قُتلوا هنا يأتون من الجنوب. ليس من المبالغة إذن القول، «إن جنوب إيطاليا يعيش حرب دائمة دائما»، كما يعلق الراوي وبحق على قصة ماريا. فقط في شمال إيطاليا «كانت الحرب الأخيرة، هي الحرب العالمية الثانية». في الجنوب، هناك العديد من الحروب الأخيرة، أليس ذلك ما حدث لماريا، العروس الشابة، التي اشترت الحلوى لعرسها، وكان عليها بدل أن تحتفل وتفرح بعرسها، تستلم جثة خطيبها؛ أليس ذلك ما حدث للشاب المرتعب توماسو، العائد من حرب البوسنة والهرسك، الذي يفرغ عدوانيته في ألعاب الفيديو في البار؛ أليس ذلك ما يعيشه الشباب الذين عادوا من «الحملة» في أفغانستان أو في البوسنة والهرسك، الشباب الذين ما يزالون يحملون قلائدهم العسكرية التي تُعرف بهم، والذين يعانون جميعا آثار تلك الحرب، مرضى حتى في ممارساتهم الجنسية.

هكذا يعرض لنا سافيانو وبمهارة، كيف أن الحرب الداخلية هي الأكثر عرضة للفرجة، كما تتحدث عن هذا الموضوع وبشكل شامل القصة الثانية، «الحلقة». أنها قصة «كومورية» تماما، تقريب من الأقدار الصغيرة الحقيقية. ترويها صحافية قادمة من الشمال، تعتقد أنها تعرف الكثير عن عالم مافيا الكومورا، لدرجة أنها تستطيع التمييز بين المذنبين والأبرياء. أنها تُدرس من قبل الشباب في نابولي، «ما يؤخذ بالحسبان، هو مكان الولادة المسجل في البطاقة الشخصية». الشباب الخمسة الذين يقتلون الوقت في محل لبيع البيتزا يعرفون ذلك بشكل جيد: «أنهم يكبرون ويشعرون بشكل غريزي، بأنهم مذنبون، لأنهم يعيشون في هذا المكان».

قصص سافيانو هي قصص تلامس نياط القلب، قصص حزينة تتحدث عن عالم غريب. والسواد، الذي تلبسه ماريا، هو اللون الأساسي لهذا العالم. «في مكان ولادتي تلبس كل صديقات عمتي دائما الثياب السوداء، لأن هناك دائما شابا قُتل أو قريبا بعيدا سقط من سقالة بناء.. وإذا لا يكون هناك مأتم، يلبس المرء دائما أسود، لأن هناك من سيموت قريبا جدا..».

في قصص مثل هذه ليس من السهل ألا يعتري الإنسان الغضب. أما الأمل في هذا العالم فيبدو دائما مشروعا فاشلا ليس إلا، أما العيش هنا «في بلدتي هذه»، كما يقول روبيرتو سافيانو، فيعني دائما أن يكون المرء ضحية، هذا ما يمنح القصص قوتها اللغوية، لكن أيضا هذا ما يمنح الحقيقة التي تأتي منها القوة، البريق الغامض المغري أبدا بالقص. في سواد عالم روبيرتو سافيانو يجب أن يبقى كل شيء مثلما هو.