شهر القرآن (19) (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)

د. عائض القرني

TT

أشغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد والأشياء عن الاستعداد للقاء المحتوم واليوم الموعود، والالتهاء بالتكاثر عن المقاصد خذلان، والاشتغال بالوسائل عن المقاصد إفلاس، فالتكاثر يكون بجمع المال وتكديسه وتخزينه، فلا ينفق في الحقوق ولا تؤدى به الواجبات، فيكون الفقر الحاضر والشغل الدائم:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي صنع الفقر والتكاثر في الأولاد والاعتداد بهم بطرا ورئاء الناس دون أثرة من صلاح أو سعي لرشد، والتكاثر بالنعم ترفا وبذخا وإسرافا؛ لَهُوَ من أعظم العوائق عن الهداية والتزود بالصالحات، والتكاثر ضرب من السفه ومذهب من الرعونة يناسب عقول الصبيان وطموح الولدان، ومثله التكاثر بالعوامل بلا عمل، فتجتمع في الذهن بلا بصيرة، ويفنى في تحصيلها العمر بلا ثمرة، وتذوب في حفظها الأبدان بلا نفع، لأنها عطلت عن الامتثال، وفصلت عن الانتفاع بها، والتكاثر من الملهيات والمسليات والمغريات من شهوات ولذائذ وفنون وهوايات يجعل الحياة بهيمية ساقطة، والهمم سافلة، والعمر أضحوكة، والبقايا مهزلة:

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام إن المسؤول الذي ألهاه التكاثر بالأوسمة والنياشين والألقاب لهو عابث يحفر لنفسه قبرا في عالم الخذلان والإحباط، وإن العالم الذي ألهاه التكاثر بجمع الغرائب، وحشد العجائب، والتطاول بمحصوله، والتباهي بمحفوظه، على حساب العمل لهو خاسر أشغله ذلك عن مرتبة الربانية، ودرجة الإمامة.

وإن الكاتب الذي ألهاه تكاثر نتاجه، وأشغله هذا السيلان، ونمو بريق الشهرة، وخدعه زخرف المديح لهو كاتب مخذول، إن من قدم الصورة على المضمون، والظاهر على النية والقصد، والدنيا عن الآخرة، والمخلوق على الخالق لهو عبد ضال سعيه وخائب منقلبه.

إن ركعة خاشعة من عابد صادق أجل من ألف رجعة لعبد ساه لاه عابث، إن قراءة آية بتدبر وتفهم خير من ختمة كاملة بلا حضور ولا تفكر، وإن مطالعة صفحة بإمعان أعظم من سرد مجلدات مع شرود وذهول، وإن الحسن أحسن من الكثرة والمداومة: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) وإن حوضا من ماء عذب أنفع من بحر ماؤه مالح، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.