الألمان يعيدون النظر في التجنيد الإجباري

لمنع الجيش من أن يتحول مرة أخرى إلى دولة داخل دولة

TT

للمرة الأولى خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، تبدو القيادة السياسية الألمانية مستعدة لإنهاء التجنيد الإجباري، وهو تفويض بعد الحرب العالمية الثانية، يعد جزءا من الدستور يهدف إلى منع الجيش داخل ألمانيا من أن يتحول مرة أخرى إلى دولة داخل دولة يمكن أن تمثل عقبة أمام تطبيق الديمقراطية مما يأذن بالحرب.

وقد أصبحت فكرة الخدمة الإجبارية شيئا غير مناسب لعالم ما بعد الحرب الباردة، إذ تغيرت المخاوف الأمنية، مما تطلب جيوشا حرفية وأصغر حجما للتعامل مع المناطق الساخنة في مختلف أنحاء العالم، ولمحاربة التهديدات الإرهابية. ولم تعد كثير من الدول الغربية تعتمد نظام التجنيد الإجباري منذ وقت طويل.

ولكن على ضوء تاريخ ألمانيا وارتباط الأحزاب المحافظة بالتجنيد الإلزامي بقي التجنيد الإجباري حتى الآن، على الرغم من أن ذلك أصبح مجرد شيء رمزي على نطاق واسع. ولا يقوم بالخدمة حاليا سوى عدد قليل من الشباب، وتبلغ مدة الخدمة عادة ستة أشهر فقط.وقد بدأ التجنيد الإجباري عام 1956 من أجل تطوير جيش من يسمون بـ«مواطنين نظاميين»، وساعد ذلك على تشكيل قوة مسلحة متكاملة مع المجتمع وموالية للقيادة المدنية، ولم تعد ثمة خشية من ظهور قوة نخبوية مثل تلك التي سيطرت على شؤون الدولة في أعوام جمهورية فايمار وقبل ذلك.

ونجد الألمان في الوقت الحالي أقل ارتباطا بماضيهم، وتدفعهم بصورة متزايدة مصالحهم كما يرونها. وقد صيغت الرغبة في إجراء تعديل على الجيش على أنها خطوة أخرى في عملية تطبيع الأوضاع داخل الدولة. وبصورة متزايدة نجد الألمان واثقين في أنفسهم، وترفرف أعلامهم، ويترنمون بالأناشيد الوطنية، وهي إشارات كان يُنظر إليها من قبل على أنها محرمات قومية. ويقول حجو فنك، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة فري داخل برلين، يدعم التحول إلى الجيش التطوعي بالكامل: «لقد توصلنا إلى تفاهم تقريبا فيما يتعلق بالماضي».

وألمانيا التي كانت مستعدة لإظهار قوتها الاقتصادية ومقاومة الضغوط من أجل تحفيز اقتصادها خلال الأزمة المالية، هي ألمانيا التي تبدو حاليا مستعدة لتعليق الخدمة الإجبارية.

ويقول رينر أرنولد من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني والعضو البارز في لجنة الدفاع داخل البوندستاغ (البرلمان) الألماني: «لقد كان تجنيد شباب بدلا من جنود حرفيين ضمانا لوجود جيش ديمقراطي». ولكنه أشار إلى أنه «في الوقت الحالي، لم يعد يخشى أحد تقريبا من أن جيشا يحتوي على عدد كبير من الحرفيين سينفصل بنفسه عن السيطرة المدنية، ويسعى لتحقيق مصالح خاصة. ولكن، لقد مضى بعض الوقت قبل أن نصل إلى هذه الثقة».

ومنذ أعوام، هناك نقاش حول إجراء تعديل على الخدمة في الجيش، ولكن اكتسب هذا النقاش زخما خاصا يوم الاثنين، عندما كشف وزير الدفاع كارل تيودور زو غتنبرغ عن خطة لإجراء تعديل على القوات المسلحة. وتدعو الخطة إلى تقليل حجم القوات إلى 163 ألفا من 250 ألفا في الوقت الحالي، وإجراء تعديلات على هيكل القيادة، وإغلاق قواعد عسكرية، ووقف التجنيد الإجباري. وضغط الوزير من أجل ذلك من خلال التأكيد على أن التعديل ضروري لتوفير المال - نحو 8 مليارات يورو (10 مليارات دولار) خلال ثلاثة أعوام - من أجل التعامل مع المطالب الأمنية المتغيرة. ويحظى رأيه هذا بدعم على نطاق واسع. ولكن كان مبدأ التجنيد شيئا ضروريا من أجل الحفاظ على الديمقراطية التي برهنت، للبعض، على أنها أصعب شيء يمكن تركه يضيع.

وكتبت باتريشا ليبر، وهي محافظة من الاتحاد الديمقراطي المسيحي وعضو البرلمان: «يجب الحفاظ على قالب (مواطن نظامي). ويعد التجنيد الإجباري رابطا اجتماعيا مهما بين القوات المسلحة والمجتمع، وقد برهن على أن القوات المسلحة هي جيش ديمقراطي».

وتبدو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهي أيضا من الاتحاد الديمقراطي المسيحي، مستعدة لقبول تسوية سياسية بخصوص هذه القضية، ومن المفترض أن تحافظ هذه التسوية على الاشتراط القانوني للتجنيد الإجباري - لتهدئة أعضاء حزبها - مع تجميد العملية فعليا. ويقول خبراء إنه من المتوقع اتخاذ قرار بشأن هذه الخطة في نوفمبر (تشرين الثاني).

ويقول ريتشارد هيلمر، المدير الإداري في شركة «أنفراتست ديمب»، وهي إحدى أكبر مؤسسات استطلاع الرأي داخل ألمانيا: «لم أكن أحسب أنه سيكون من السهل عليهم التخلي عن ذلك، ولكن يبدو وكأنهم سيوقفونه. لقد كان جزءا من الثقافة الألمانية. ثمة خطورة إذا كان هناك حرفيون فقط، إذ تكون هناك مؤسسة منفصلة أقل اندماجا مع المجتمع الألماني».

وتعد قضية التجنيد قضية عاطفية داخل أي دولة، ولكنها تثير المشاعر بدرجة أكبر في ألمانيا. وبعد الحرب العالمية الثانية، بدا أن ألمانيا لن يكون لديها جيش مرة أخرى. وتغير ذلك خلال الحرب الباردة. وقُبلت ألمانيا الغربية في الناتو عام 1954، وفي عام 1956 بدأ التجنيد الإجباري. وفي 1963، مررت ألمانيا الغربية قانونا يسمح لمن لا يريدون الخدمة في الجيش بأداء خدمة مدنية، مثل العمل في منشآت الرعاية الصحية على سبيل المثال بدلا من الجيش.

ويقول مايكل ولفسون، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الجيش الألماني داخل ميونيخ، إن التهديد الشيوعي دفع الألمان الغربيين إلى الاستمرار في الخدمة، ولكن بعد الوحدة، تراجع الدعم الشعبي الضعيف للتجنيد الإجباري، وأضاف: «الحقيقة الأساسية أن الألمان لا يرون لأسباب واضحة أن عليهم الدخول في حرب من جديد. وبعد أن تعلموا درسهم، عرفوا أن استخدام القوات العسكرية خطأ على ضوء تاريخ ألمانيا».

وبعد التوحيد، أصبح التزام الدولة بالتجنيد الإجباري مجرد شيء رمزي بصورة متزايدة. وبحلول 2002، كان على المجندين إلزاميا الخدمة لمدة تسعة أشهر فقط، وبعد ذلك في يوليو (تموز) قلصت مدة الخدمة إلى ستة أشهر، وهي مدة يقول حتى مؤيدو الخدمة الإجبارية إنها قصيرة جدا، مما يجعلها لا قيمة لها.

ويقول الكولونيل أولريش كيرش، وهو رئيس مؤسسة تمثل مصالح الجنود، ويدعم الإبقاء على الخدمة الإلزامية: «للأسف في الوقت الحالي تتزايد الرغبة في التخلي عن هذا الخدمة الإلزامية. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن القالب المتبع حاليا غير صالح للبقاء بعد تقليص مدة الخدمة الوطنية».

وفي الواقع، فإن بعض الألمان الشباب الذين كانوا يدخلون إلى مركز التجنيد الإجباري الأسبوع الحالي قالوا إنهم لا يعلمون السبب وراء تطبيق التجنيد الإجباري منذ البداية، ويعرفون أنه لا يعني سوى صرف الوقت لشيء لا يهتمون به أساسا.

وقال دينيس جوستن (23 عاما) بينما كان في صحبة شقيقه الأصغر ذاهبا إلى المركز: «نحن مع وجود جيش تطوعي بالكامل، فهذه مجرد مضيعة وقت».

ويُشار إلى أنه بمرور الأعوام، تراجع حجم القوات بمقدار النصف، وعليه لا يخدم في الجيش سوى 17 في المائة فقط من المؤهلين. وفي الأعوام الأخيرة اختار الكثير من المجندين الخدمة المدنية على الخدمة العسكرية. وفي 2009، وهو آخر عام توجد إحصاءات نهائية عنه، مضى 68304 شباب إلى الخدمة العسكرية، في حين خدم 90555 في منشآت صحية. وقد عزز هذا الوضع من فكرة التخلي عن التجنيد الإجباري. ويقول وينفريد ناتشتوي، وهو خبير أمني من حزب «الخضر» المعارض: «وجود جيش متكامل مع المجتمع يمثل شيئا مهما بالنسبة لنا (الخضر)، كما هو مهم بالنسبة للمحافظين. ولكن في الوقت الحالي لا يحقق التجنيد الإجباري ذلك. وعلينا تحقيق ذلك من خلال وسائل أخرى».

* خدمة «نيويورك تايمز»