حراك فكري في الرياض يشدد على استخدام القرآن والسنة لإنتاج حضاري وتدارك التاريخ من عبث التهويد

لقاء تركي بن طلال الثقافي الرمضاني يحذر من تكريس التخلف بإطلاق نداءات الموت وطلب المعجزات وانتظار الغائب

الأمير تركي بن طلال مؤسس اللقاء منذ 18 عاما يكرم أحد المشاركين («الشرق الأوسط»)
TT

بحث نخبة من العلماء والمفكرين وشخصيات إسلامية بتخصصات مختلفة خلال ندوات رمضانية أقيمت بالعاصمة السعودية على مدى عشرة أيام واختتمت فعالياتها الأسبوع الماضي واستضافها اللقاء السنوي للأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز الثقافي - عددا من القضايا الفكرية التي تهم الأمة العربية والإسلامية.

وغطت الندوات مواضيع تتعلق بالغايات القرآنية الكبرى المهجورة، كما بحثت الندوات موضوع هجر القرآن الكريم ومظاهره وكيفية مواجهته، وناقشت موضوع تهويد التراث الفلسطيني، كما طرح خلال اللقاء موضوع النهضة بين النظرية والفعل، وتطرقت إلى موضوع المشروع الحضاري الوطني، ولفتت الندوات إلى موضوع «الوالدية الذكية اليوم». وطالبت الندوات باستخدام القرآن والسنة لإنتاج حضاري، محذرة من تكريس التخلف في العالم العربي والإسلامي بإطلاق نداءات الموت وطلب المعجزات وانتظار الغائب، مشددا على أهمية تدارك التاريخ الإسلامي من عبث التهويد، كما طرح اللقاء المشروع الحضاري العربي والإسلامي الذي أكد اللقاء أنه يجب أن يعبر عن الذات والهوية وينبثق من معاني الوحدة ويتسم بالوعي التاريخي، ملمحا اللقاء بأن بعض علماء المسلمين يغردون خارج السرب لافتا إلى أهمية تشجيع الفردية ليكون لدينا مبدعون ومنتجون. وأشار اللقاء إلى أن الملك عبد العزيز بلور مشروعا حضاريا وطنيا كبيرا وحقق به أعظم وحدة في تاريخ العرب المعاصر، واعتبرت ندوات اللقاء أن التربية صناعة وليست توفيقا كما يعتقد الكثير من الناس، وأن ليس من التربية أن نقيم مراكز للشرطة داخل منازلنا لمراقبة أبنائنا. وللعام الثامن عشر على التوالي أصبح (لقاء تركي بن طلال بن عبد العزيز الثقافي) الذي يتضمن ندوات تشارك فيها نخب مختارة من العلماء والمفكرين وقادة الرأي وغيرها من الرموز والمعالم الفكرية، وتعقد مع إطلالة رمضان من كل عام بالعاصمة الرياض. ودخل (اللقاء) عامه الثامن عشر بنجاح ملموس، وحضور نوعي مؤثر (رجال ونساء)، وحوارات تعقب الندوات وتنتهي برصد للجديد والمفيد، مما يطرح لنقاش وصولا إلى توصيات محددة يتم العمل على تفعيلها.

وانطلق برنامج الندوات الرمضانية هذا العام وامتد من الثالث حتى الثاني عشر من رمضان. واستضاف (اللقاء) في يومه الأول السعودي الشيخ حسن بن فرحان المالكي، الذي قدم محاضرة بعنوان (الغايات القرآنية الكبرى المهجورة)، كما قدم المالكي في ندوته الثانية محاضرة بعنوان «هجر القرآن الكريم ومظاهره وكيفية مواجهته». وكانت الندوة الثالثة بعنوان «تهويد التراث الفلسطيني» للمصري الدكتور فرج الله بن أحمد يوسف، وفي الأمسية الرابعة تناول القطري الدكتور جاسم بن محمد السلطان قضية «النهضة بين النظرية والفعل»، أعقبه السعودي الدكتور عبد الله البريدي في الليلة الخامسة بحديث جاذب عن «المشروع الحضاري الوطني»، واختتم (اللقاء) في الليلة السادسة بندوة للسعودي الدكتور إبراهيم الخليفي عن «الوالدية الذكية».

وطالب الشيخ حسن بن فرحان المالكي بالعودة إلى قراءة القرآن بتدبر وتمعن وأن لا يكون الإنسان مستسلما للرأي السائد، مبينا أن الأكثرية ذمها الله في القرآن وهي تغطي العقل. وأوضح أن الغرب الذين نتفاخر باختراعاتهم ومصنوعاتهم اكتشفه أفراد وليست مراكز بحوث. وطالب المالكي بتشجيع الفردية ليكون لدينا مبدعون ومنتجون.

وكشف المالكي أن هناك مواضعات وغايات كبرى مهجورة لم يتم التطرق إليها لا بكتب التفسير والحديث والفقه، مشيرا إلى أن الغايات أبعد من الأهداف ولها بعد استراتيجي، وشدد على أن الابتلاء هو الغاية القرآنية الأولى المهجورة، وهو موضوع قرآني، وأن الابتلاء من قبل خلق آدم، وبين أن هناك كثافة قرآنية عن الابتلاء وأن الإنسان مبتلى في كل حالة: عقله، بصره، سمعه، جميع الحواس، معددا أدلة من القرآن، وأن الابتلاء من خلق السموات والأرض وهو ما يشتمل على ما دونه من الغايات كالعدل والعبادة، والابتلاء في كل النعم وخاصة الحواس والعقل والضمير، فهي في حالة ابتلاء دائم للرخاء والشدة ،وأن الابتلاء عام في كل الناس حتى الأنبياء يبتلون.

ولفت المالكي إلى أن الغاية الثالثة المهجورة هي العبادة، وبين في نهاية محاضرته أن غايات الابتلاء والعدل مهملة في الحديث والفقه والعقيدة. وقال إن الخليفة المسلم الوحيد الذي وظف عقله هو المأمون، وأن أبا جعفر المنصور كان له عقل كبير لكنه لم يوظفه، وقال إن علماء المسلمين يغردون خارج السرب.

* إسكات التاريخ ومحو الآثار الإسلامية

* من جانبه، حذر الدكتور فرج يوسف أستاذ الآثار الإسلامية من المشروع الإسرائيلي لتهويد المواقع الأثرية في فلسطين التي تضم 150 موقعا ومتحفا وأرشيفا ومؤسسة ثقافية، وطالب بسرعة إيجاد مراكز متخصصة للدراسات الإسرائيلية في الجامعات العربية، مشيرا إلى أن جهود الفلسطينيين كبيرة وحراستهم مستمرة على كل المقدسات والآثار، لكن الاحتلال قاسٍ ولا بد من منظمات عربية لدعم شعب فلسطين لوقف تهويد تراثه.

وأكد في محاضرته أن هناك محاولات صهيونية لإسكات التاريخ العربي، ومحو الآثار الإسلامية والمسيحية، ومسح النقوش والكتابات العربية ووضع كتابات عبرية محلها، وإحياء التاريخ اليهودي في فلسطين، وأكد أن الأوقاف والآثار الفلسطينية أصبحت نهبا بيد المحتلين الصهاينة، بينما توقف نظام الأوقاف بأكمله عن العمل بعد تشرد أهل فلسطين وفيهم القضاة، وأئمة المساجد، ومسؤولو الأوقاف، ودمرت مساجد وأغلقت أخرى، وتشتت مسؤولو المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى المسؤول عن أوقاف فلسطين، وتقطعت أوصال الأوقاف.

وبين الدكتور يوسف أن بعض المباني والآثار تقع ضمن حدود الكيان الصهيوني بينما أوقافها ضمن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة أو العكس، وانهارت تبعا لذلك جميع الأنظمة التعليمية والصحية والاجتماعية التي كانت ترتبط بالأوقاف الإسلامية في فلسطين. ولم يحترم الصهاينة التمسك بقرار التقسيم الذي قبلوه وكان ينص على أن «قانون العائلة، والأحوال الشخصية لشتى الأقليات، والمصالح الدينية الأخرى ومنها الأوقاف سيتم احترامها»، وانقطعت الاتصالات والصلات بين الفلسطينيين داخل الأراضي التي احتلها الصهاينة وبقية الوطن العربي والعالم الإسلامي، وظلوا يعانون غياب قيادة تتحدث عنهم أو تمثلهم في الكيان الصهيوني بعد تدمير كل منظماتهم الاجتماعية والتعليمية والدينية».

وأشار المحاضر إلى أن الكنيست الصهيوني في 14 مايو 1950 سن قانون أملاك الغائبين لكي يتسنى له الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية، وعمد الكيان الصهيوني إلى اعتبار المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى - الجهة المسؤولة عن الأوقاف في فلسطين غائبا، وذلك استنادا إلى أن كبار موظفي المجلس الذين كانت أراضي الأوقاف مسجلة بأسمائهم قد فروا أو طردوا، وبذلك وضعت الحكومة الصهيونية يدها على الأوقاف الإسلامية كافة في فلسطين، وكان القسم الأكبر من أراضي الأوقاف وأملاكها يقع في الأراضي التي قام عليها الكيان الصهيوني سنة 1948، وخاصة في مدن: حيفا، وعكا، ويافا، واللد، والرملة، وكانت معظم أراضي الأوقاف المزروعة تقع في السهل الساحلي بين غزة جنوبا وحيفا شمالا، بالإضافة إلى الاستيلاء على أراضي الأوقاف، حيث استولت السلطات الصهيونية على ما تصل نسبته إلى 90% من القرى الفلسطينية بعد تدميرها وتشريد أهلها.

ويأتي المسجد الكبير في مقدمة مساجد المدينة، حيث شيد سنة 1900، وبعد الاحتلال الصهيوني تم تحويله إلى متحف ومعرض للرسوم والصور، ولكن معارضة الفلسطينيين لهذا الإجراء أدت إلى إعادة المسجد وفتحه للصلاة ولكن لفترة وجيزة أغلق بعدها، وأمام الإصرار الصهيوني على تحويل المسجد إلى متحف قامت بلدية بئر السبع في الثاني عشر من ذي القعدة 1424 الموافق 4 يناير (كانون الثاني) 2004 بالإعلان عن رغبتها في تقديم عروض من شركات لتحويل المسجد إلى متحف، وسوف يتم تنفيذ المشروع عن طريق إحدى الشركات التابعة لبلدية بئر السبع.. ولجأت مؤسسة الأقصى إلى محكمة الصلح في بئر السبع في محاولة لإيقاف المشروع ولكن المحكمة رفضت طلب المؤسسة.

* مشكلات العرب انتقلت إلى أوروبا

* وبدأ الدكتور جاسم السلطان المتخصص بالنهضة مشاركته في اللقاء من خلال موضوع «النهضة بين النظرية والفعل» بإيراد قصة حدثت له في صيدا بلبنان، موضحا أنه كان مدعوا لإلقاء محاضرة لمدة نصف ساعة عن النهضة، وقال: «كان هناك شخص رافعا يده، فتوقفت عن الحديث فسألنا عن تعريف النهضة»، ومن هنا عرف النهضة بأنها حراك جديد في بيئة ركود حين تلتقي بأفكار حية فتحركها وتعيد إنتاجها وتدخلها في دورة حضارية جديدة، مشيرا إلى أن الجزيرة العربية كانت بيئة ركود قبل البعثة، ولما نزلت دعوة الإسلام جاءت كمية أفكار حية لهذه البيئة تعيد ترتيب الإنسانية، حيث كان يوجد بها سلطة القديم، الآباء والأجداد وسلطة القائم، الكهنة المستفيدون. وقال المالكي: «إذا تأملنا واقع النهضة بالعالم العربي نرى الناس يتطلعون إلى نماذج كالصين وماليزيا والهند»، مبينا أن الناس في عالمنا العربي يرفعون ثلاثة نداءات: الأول: نداءات الموتى، أين صلاح الدين، أين عمر بن الخطاب أين خالد بن الوليد؟! الثاني: نداءات طلب المعجزات، مدللا بالدعوات التي تنطلق من منابر المساجد بالدعوة على الكفار واليهود واللهم لا تبقي أحدا واحصرهم عددا، واقتلهم بددا. الثالث: الغائب، أين أمة الإسلام، ويستمر النداء بشيء غير موجود. والنداءات الثلاثة لن تحقق شيئا ولا بد من عمل بعيد عن دائرة العجز والعمل للنهضة، وأشار إلى أن مشكلات العرب وعجزهم وضعفهم انتقل معهم إلى أوروبا.

وقال السلطان الخبير بالنهضة نحتاج تأهيل مليون شاب عربي في المنطقة العربية يملكون الوعي والمبادرة ولا ينظرون إلى النداءات الثلاثة أن تؤهلهم لاتخاذ قرارات بطريقة أفضل وتدريبهم من لا فاعلية إلى الفاعلية وتحسين قدراتهم، وعرج إلى أنه جاءه في مشروع النهضة شباب من البلدان الأفريقية «ودربناهم 7 أيام، وحينما غادروا لبلدانهم انتظرت منهم خطاب شكر ولم يصلنا منهم أي شيء لمدة أربعة أشهر، وبعدها وصلتنا رسالة منهم فحواها أنهم كانوا ينوون الخروج المسلح على الدولة وحشد الشباب للقيام بأعمال إرهابية».

ودلف السلطان إلى أن الدين يستخدم أداة للتخلف وللفتن والصراعات والتفجيرات، وللتقدم للسلام والنهضة إذا أحسن استخدام النصوص ذاتها من خلال كيف نحسن تواصل الإنسان مع القرآن وتطوير المهارات الإدارية. وبين أننا نستطيع أن نسهم في فكرة التمكين بتدريب الكوادر البشرية وتحسين قدراتهم على اتخاذ القرارات، وهناك فلسفة التفعيل من خلال دعم مشروع، وفلسفة العطاء من خلال فهمنا للدين، مدللا بالفسيلة والتمرة والثوب، وبين الفسيلة مستدلا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يدي أحدكم فسيله فليغرسها»، والتمرة: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، والثوب هو حجر النهضة، فلو كل مسلم قام ورفع طرفه لقامت النهضة لدينا.

وبين السلطان أن أزمة العقل العربي تنحصر في العنف والسلبية وأن الانقسامات الداخلية في المجتمعات العربية تهدد، وهي قنابل موقوتة، ومشروع النهضة العربية يحمل أمة كاملة، وأوضح أن الشعارات الكبرى في الإسلام لم تعد موجودة مثل «يا أيها الناس» انتهى، و«يا أيها الذين آمنوا» تقزم تقزما شديدا، ويا أيها المسلمون، ويا أهل الكتاب تشوه تشوها لا حدود له، وشوهت معه علاقة المسلم مع غير المسلم.

واستطرد السلطان مناشدا بالعودة إلى نقاوة الإسلام وسمو أفكاره وأن نميز بين فعل رب العالمين والناس وننتقل إلى واقع عملي. وبين أن التنمية البشرية التي جاءت من الغرب عبارة عن رأس الثلج، الطفل الغربي يناقش، والطفل العربي خريطة مضروبة من الأساس، ولذلك لا بد أن نبني معرفة حقيقية من الأساس. وأشار إلى أننا نستطيع أن نهدم جدار اليأس من الأساس باستدعاء التاريخ من خلال الجزيرة العربية وتقبل البيئة القرشية للرسالة، وقال إننا لن نستطيع اللحاق بالغرب، وليس عندنا فرصة، فلا بد من مساحة جديدة غير مقروءة ونبدأ من حيث انتهوا، الهند ليست متقدمة، ولكنهم اختاروا مجال التكنولوجيا.

* المشروع الحضاري وغياب الرؤية

* حين يذهب عدد من المثقفين والباحثين العرب إلى أن هنالك حالة من الإجماع على ضرورة صياغة المشروع الحضاري العربي الإسلامي في هذه اللحظة التاريخية الراهنة، فإن تلك النتيجة تبهج نفوسنا بلا شك، غير أنه يجب ألا يفوتنا أننا نتحدث عن دوائر نخبوية اقتنعت بفكرة المشروع الحضاري، أي إننا لم نصل بعد إلى الدوائر الرسمية والدوائر الشعبية أيضا، وهي دوائر لا أعتقد أنه يمكن لنا الزعم بأنه قد تم تحقيق نتائج ملموسة معها. بهذه العبارة الملتبسة، بدأ الدكتور عبد الله البريدي محاضرته بعنوان «المشروع الحضاري الوطني»، التي قدمها في الأمسية الرابعة من ليالي لقاء تركي بن طلال بن عبد العزيز الثقافي.

واستطرد البريدي موضحا أن «البعض يشير إلى أن هنالك توجها في أدبيات التنمية العالمية لهجرة مصطلح «المشروع الحضاري» لحساب مصطلح (الرؤية الاستراتيجية)، إلا أنني لا أرى وجاهة الدعوة إلى هجره، وذلك لأسباب كثيرة، ومنها أن المصطلح الأول يتضمن دلالات إيجابية أو مفيدة لا يتوفر عليها المصطلح المقترح (الرؤية الاستراتيجية) الذي تعتوره عدد من الإشكاليات، ومن ذلك أن مصطلح (المشروع الحضاري) يمنحنا معنى (النزوع) الذي يجمع ركني النجاح: الطموح والعمل، وفي هذا حمولة تحشيدية تعبوية نحن بأمس الحاجة إليها، كما أنه بالجمع بين كلمتي: مشروع وحضاري يؤكد النزعة الجماعية في بلورة ذلك المشروع وفي تنفيذه، فهو مشروع ضخم لا يمكن أن تنهض به اجتهادات فردية، بل لا بد من جهد جماعي تكاملي، مع ضرورة ترسيخ مفرداته وقيمه من خلال ممارسات سياسية واجتماعية وثقافية وتوسيع نطاق المشاركة الشعبية في صياغته».

وبين البريدي أنه لهذه الأسباب وأمثالها يذهب إلى ضم مصطلح «الرؤية الاستراتيجية» إلى عائلة الدلالات أو منظومة المفاهيم الجزئية للمصطلح الأول لنكون قبالة: «مشروع حضاري» ينبني على «رؤية استراتيجية»، ولكنها ليست أي رؤية استراتيجية، بل هي – كما يؤكد بعض الباحثين - رؤية تتسم بالطموح والواقعية والجاذبية في آن؛ تقنع بها القيادات والجمهور وتكون محركا للعملية النهضوية الاستراتيجية على نحو يؤمن بأنه يسعنا تشكيل مستقبلنا بالصورة التي تحقق مصالحنا وتطلعاتنا. ويجب أن نضيف عاملا أساسيا في الرؤية الاستراتيجية في المجال التنموي وبالذات في الجانب الاقتصادي، فالرؤية الجيدة يجب أن تقود إلى تحديد المزايا التنافسية للدولة كما يحب أن يعبر «المشروع الحضاري» عن الذات والهوية وثوابتها، وأن ينبثق من معاني الوحدة ويكرسها ويحافظ عليها، مع ضرورة اتسامه بالوعي التاريخي والذكاء في الإفادة من دروسه وعظاته، على أن يعكس وعيا بالذات وبعلاقتها مع الآخر، ويجسد تعاونا وتكاملا بين الحكومات والمثقفين والعلماء ومؤسسات المجتمع المدني، وفي نهاية المطاف يجب أن يصاغ في شكل خطة عملية طموحة وواقعية، أي إنه حتى مع نزعته التعبوية والتحشيدية، يجافي الطوبائية والأحلام الفارغة. وجلي أن المشروع الحضاري كي يتصف بما سبق فإنه أمام إشكاليات ضخمة وتحديات كبار يجب أن نتجاوزها سواء كانت داخل فضائنا أو خارجه، وذاك أمر يتطلب جهودا كبيرة ومخلصة، لا سيما أن الفكر التجزيئي هو النمط السائد في واقعنا العربي، مع تورطنا في نمط شللي في الفكر والممارسة يفضي إلى تشرذم وضعف إنتاجية في كثير من الميادين.

«ولا أحسب أننا سنكون دقيقين أو لنقل صرحاء حين نغادر هذه النقطة دون أن نقرر حقيقة مهمة تتمثل في أن من الرؤية الاعتراف بأننا لا نمتلك رؤية متكاملة بعد، فضلا عن مشروع حضاري وطني، فمنطق التصنع أو الادعاء بامتلاك رؤية هو منطق مكشوف الآن بعد ذيوع المعلومات وتفشي الوعي، وغني عن القول بأنه منطق مدمر ومكلف على المستوى البعيد ومخدر ومربك على المستوى القريب».

واختتم البريدي محاضرته بتأكيد أن «الملك عبد العزيز آل سعود - طيب الله ثراه - بلور مشروعا حضاريا وطنيا كبيرا، وحقق به أعظم وحدة في تاريخ العرب المعاصر، وتضمن مشروعه الكبير الحفاظ على ذلك الكيان وترسيخ وحدته وتنميته، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى بلورة مشروع حضاري وطني لما بعد التأسيس والوحدة والاستقرار والتنمية الأساسية، يتم صياغته وفق مقومات المشروع الحضاري واشتراطاته، فعالم اليوم مليء بالتحديات الكبار ولا نهضة حقيقية لأي بلد بل ولا قدرة له على الصمود فضلا عن المنافسة دون امتلاك مثل ذلك المشروع الحضاري، وقد آن لنا أن نفتح ملفات مشروعنا الحضاري الوطني».

* التربية صناعة وليست توفيقا

* أما خاتمة ندوات (لقاء تركي بن طلال بن عبد العزيز الثقافي)، فكانت للدكتور إبراهيم الخليفي المتخصص بالتربية، الذي تحدث عن «الوالدية الذكية اليوم»، حيث تطرق لكثرة شكاوى الوالدين من تمرد الأطفال، وأن التربية أصبحت صعبة في هذا الزمن. وشدد الخليفي على أن التربية صناعة وليست توفيقا كما يعتقد الكثير من الناس، وعرف الذكاء بأنه القدرة على التكييف ويحقق حاجته ويصل لمبتغاه، وقسم الذات إلى نوعين عالية ومنحطة، والعالية هي التي ترى أنها محترمة، بينما المنحطة هي التي لا ترى أنها محترمة. وقال الخليفي: «أساس الحياة السعيدة هو وضوح معنى الحياة، وهو بمثابة الخريطة والمسار الذي يعين على اتخاذ القرارات»، وشدد على أننا أصبحنا نقيم مراكز للشرطة داخل منازلنا لمراقبة أبنائنا، وأكد ضرورة كره السلوك لا كره الابن.