أبو العينين شعيشع: القراء هذه الأيام يأكلون البلاستيك.. فماذا تنتظر منهم؟

TT

في هذا المستوى فقط من السمو، يمكن أن تقابل المقامات الموسيقية، والأزهر، والمسجد الأقصى، والشيخ محمد رفعت، والقبطي سامي داود، والعميد طه حسين، في سياق واحد وفريد ومنسجم. في هذا المستوى فقط، يمكن أن تشعر أن الحياة الدنيا والآخرة متمازجتان دون تناقض ومتحابتان بلا حرج.

على أعتاب الشيخ يمكنك أن تلتقي الملوك والفقراء في تقارب لن تراه إلا هنا، ولم لا.. أليس واقفا على باب الله؟

إنه الشيخ أبو العينين شعيشع، نقيب المقرئين المصريين، الابن الثاني عشر في أسرة ظلت سنوات تصارع فقرا لم يكن غريبا في صراع المصريين مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، حيث ولد في شهر أغسطس (آب) عام 1922 في قرية بيلا بمحافظة كفر الشيخ، شمال مصر.. كانت لأمه في حياته إرادتان لم تتحققا، الإرادة الأولى أن تجهض حملها فيه، وذلك لظروف الفقر التي كانت تعيشها الأسرة وقتها، وعن ذلك يقول الشيخ: «كانت ولادتي غير مرغوب فيها لأنني كنت الابن رقم 12، ووالدتي كانت تفعل المستحيل للتخلص مني، ولكني تشبثت بها حتى وضعتني.. وذلك لحكمة يعلمها الله، حيث كنت فيما بعد مسؤولا وسببا في إطعام كل هذه الأفواه في ذلك الحين». أما الإرادة الثانية للأم فكانت بعد ولادته، حيث رغبت في تعليمه تعليما نظاميا، غير أن المدرسين أخبروها أن ابنها لا يصلح للتعليم النظامي، ونصحوها بأن تواظب على تعليمه في الكتّاب؛ حيث إن الطفل يملك حنجرة فريدة تحتاج للرعاية، فكانت نصيحة المدرسين سببا في ذيوع صيت أبو العينين شعيشع في دلتا مصر قبل أن يتم الرابعة عشرة من عمره.

تلك النصيحة ما زال يذكرها الشيخ الجليل، بل يجعلها سببا في عدم ظهور أصوات واعدة في دولة المقرئين.. «لقد اختفت الكتاتيب، بالإضافة إلى الماء الملوث والأسمدة الكيماوية.. لقد أصبح الأكل هذه الأيام من البلاستيك، فماذا يصنع القارئ اليوم إذا كان من أكلة البلاستيك؟!».

قبل أن يتم الشاب أبو العينين شعيشع الثامنة عشرة من عمره كان على أعتاب الإذاعة المصرية. وبالتحديد عام 1939. وقد حدث ذلك عندما ذهب بالمصادفة للقراءة في عزاء الشيخ الخضري، شيخ الجامع الأزهر آنذاك، وعندما جاء دوره ازدحم الناس داخل السرادق واستمر في القراءة أكثر من ساعة، وبعد أن انتهى الشيخ أبو العينين وجد نفسه أمام الشيخ عبد الله عفيفي (إمام القصر الملكي) الذي قبّله وقال له: «لا بد أن تتقدم للإذاعة لأنك لا تقل عن قرائها.. بل سيكون لك مستقبل عظيم بإذن الله».

وقتها كانت الإذاعة بابا ملكيا للشهرة وذيوع الصيت. وبالفعل عرف الشاب في أقطار العالم العربي كله، وكان الشاب وقتها متأثرا بالشيخ محمد رفعت، حتى إن الإذاعة المصرية عند ترميم تسجيلات الشيخ رفعت لم تجد غير الشيخ أبو العينين لترمم بصوته هذه التسجيلات النادرة التي ما زالت تذاع حتى اليوم ولا يستطيع كشف الفارق بين حدود صوت الشيخين، رفعت وشعيشع، إلا خبير بالأصوات.

وحينما طلبت سلطة الاحتلال في فلسطين المحتلة قارئا لسورة «الجمعة» في المسجد الأقصى ومقدما للإذاعة استشاروا الدكتور طه حسين، فأراد عميد الأدب العربي بذكاء ووطنية وسمو ديني أن يكون القارئ هو الشيخ المسلم أبو العينين شعيشع، بينما يكون مقدم القراءة هو سامي داود، القبطي المصري، المذيع في إذاعة «صوت العرب». فكانت تنطلق إذاعة صلاة الجمعة من المسجد الأقصى بامتزاج فريد، وإيقاع روحاني خاص، بفضل تقديم سامي داود وقراءة أبو العينين شعيشع.

يتذكر الشيخ أبو العينين شعيشع هذه الأيام باستمتاع لا يخلو من حسرة على حال المسجد الأقصى هذه الأيام، مشيرا إلى أن «المؤامرة لهدم الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه يتم التخطيط لها بكل جدية، وإذا لم يفق المسلمون فإنهم سيصبحون أمام كارثة، وسيحاسبهم الله على تقصيرهم في حماية الأقصى حسابا عسيرا».

ليست كل ذكريات الشيخ مؤلمة، فبعيدا عن المسجد الأقصى لا يذكر الرجل إلا الحفاوة والكرم سواء من الله أو من الملوك والأمراء والرؤساء أو من الناس العاديين المحبين للقرآن وقارئيه.. في جعبة تكريم الرجل أوسمة من العراق ولبنان وتركيا وسورية وفلسطين وباكستان والإمارات والصومال وغيرها الكثير من الدول العربية والإسلامية. لكن الحفاوة التي لا ينساها حفاوة الشيخ زايد به وبالشيخ عبد الباسط عبد الصمد حينما كان يدعوهما لإحياء ليالي رمضان في أبوظبي، حيث ظلا نحو العقد من الزمن يذهبان للقراءة هناك في رمضان.. يحكي الشيخ أبو العينين شعيشع أنه اعتذر في سنة من السنوات عن الذهاب، حيث اكتشف ورما في معدته لا يُزال إلا بعملية جراحية، كما أنه يحتاج بعد العملية الجراحية إلى نحو الأسبوعين من الراحة. لكن المسؤولين الإماراتيين أصروا على حضوره.

وأضاف الشيخ شعيشع أن الورم زال تماما من معدته ومن دون عملية جراحية، وذهب وأحيا ليالي رمضان أفضل من السنوات السابقة.

لم يتوقف الشيخ شعيشع الذي قارب التسعين من عمره عن بذل الجهد في خدمة القرآن، فبعد آخر معاركة وهي تأسيس «نقابة القراء» التي خاضها مع صديقه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وانتخب نقيبا لها عام 1988، يقضي الشيخ أبو العينين شعيشع وقته الآن في البحث عن قراء للقرآن لأصواتهم الشخصية، ولا يأكلون البلاستيك!