شهر القرآن (22) (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)

د. عائض القرني

TT

الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدبّ دبيبا كالبرء في الجسم وكالماء في العود، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، فيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندى الظل، وتتفتح الأزهار تفتُّح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.

في الصباح رجع الصدى، وقطر الندى، وحفيف الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعى، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة، وإعلان بيوم جديد، وميلاد مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.

ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)، أما وقفت معه وقفة إجلال للإبداع واحترام للبيان، كيف يتنفس الصبح؟ سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات.

والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحرى من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاته، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روحه بزفراته، أو كأنه مسجون كُبلت يداه وقُيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.

وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري؟! لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاسٍ من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفُّس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية أصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهار جميل، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشى، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس.

وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال، من ذي الجلال والإكرام.